بين بلاغة الصمت ومتاهة الصوت
الرؤيا الشعرية بين بلاغة الصمت ومتاهة الصوت في ديوان “الصدى والنون” للشاعر بوعلام دخيسي
بقلم: المختار السعيدي
إن المقاربة المعتمدة في قراءة ديوان “الصدى والنون” تنطلق من الديوان ذاته لاستخلاص القلب النابض الذي يمد بقية النصوص بإكسير الحياة، عبر قراءة حالمة تدرك التداخل الكامن بين الذات والموضوع.
وفي هذا الصدد قرأت الديوان مرات عديدة إيمانا مني بأن الترتيب الذي ابتدأه الشاعر إبداعا غير الترتيب الذي اصطفاه نشرا، وإيمانا مني بأهمية ما لم يقله الشاعر مما قد يبز ما قاله، وهذه القناعة ليست رجما بالغيب وإنما هي رؤيا نقدية اشتغل بها كثير من الراسخين في سبر أغوار القول الشعري، وفي مقدمتهم الموضوعاتيون الذين آمنوا بأن “الكلام الحقيقي هو ما لا يقال في الكلام”، ومن محاسن هذا الاختيار أن نجد هذه الرؤية حاضرة تصريحا لا تلميحا في الديوان:
“القصيدةُ ما لم تقلهُ
وما لن تقوله” ص 9 وهو المقتطف المختار على ظهر الغلاف.
بل إن الشاعر مدرك أن القارئ واع بهذه الحقيقة:
لم يزل قارئي يدرس العتبات
يحلل ما لم أقله ص 18.
غير أن هذا الحكم سنكتشف نقيضه حين نبحر في متن الديوان، ذلك بأن ما لم يقله الشاعر هو المقول عينه! حيث يتحول الصمت إلى شعر بليغ.. وتصبح الكلمات خرساء لا تبين.
انطلاقا مما سلف وبعد الإبحار في الديوان خلصت إلى أن الموضوع الناظم لقصائد الديوان يتبأر حول الشعر بما هو غوص في عمق الوجود واستكناه للحقيقة الخالدة المغشاة بحجب الواقع المتغير، ومن هنا كان الصوت صدى لذلك الغوص، وكان الصمت اشتغالا من أجل ذلك الكشف، وهي عملية ليست بالسهلة، لأن وراءها أحلاما وآلاما وجراحا…وبذا استوى فعل الكتابة بضده، لأن عدم الكتابة فعل أيضا وانشغال لا يقل خطورة عن فعل الكتابة؛ مما جعل الشاعر يصرح باختيار الكف عن الكتابة بعد حيرة بين الكتابة وعدمها فالجرح غائر في الحالين:
لن أكتب شيئا،
لن أتودد للحرف وإن كان دواء
فأنا
المجروح
إذا لم أكتب..
وإذا أكتبُ
ذاك المجروحْ
ص 44
أرى أن هذا المقطع يمثل القلب النابض في الديوان، إنه الجذر الذي يمد بقية النصوص بالرؤيا الشعرية حيث يحضر الجرح في الحالين: الصمت والبوح؛ لذا آثرت أن يكون عنوان هذه القراءة :
الرؤيا الشعرية في ديوان “الصدى والنون” بين بلاغة الصمت ومتاهة البوح.
وسنبني هذه القراءة عبر المداخل الآتية:
عتبات الديوان
الموضوع
التصوير
الإيقاع
وفي خضم ذلك سنحاول أن نجيب عن أسئلة تتضمنها هذه العناصر من قبيل:
ما القصيدة ؟ ما الشعر؟ من الشاعر؟ من القارئ؟ ما العالم؟ ما الرؤيا الشعرية؟؟
1 – العتبات
ا – عنوان الديوان: الصدى والنون
يحيل الصدى على الصوت المتردد يكون عادة في مكان خال من ضوضاء المدينة…إنه يحملنا إلى عالم الصفاء حيث يصيخ السمع للصوت المرجع، ولعل الصدى هنا ترجيع لدواوين الشاعر الخمسة المشار إليها في ظهر الغلاف والممتدة على مدى عشر سنين.
بينما تحيلنا النون على الكتابة حيث يعم الصمت فاتحا المجال للصوت الداخلي كي يرسم على الصفحة البيضاء… وقد ارتبطت النون في المتخيل الثقافي بالكتابة، كما في القرآن الكريم: “نون والقلم وما يسطرون” بل ارتبطت بالوجود، قال تعالى: “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له فيكون”، فأمره تعالى بين الكاف والنون. وهكذا يحيلنا العنوان على ثنائية الصوت والصمت…لكنها ثنائية تحيلنا في الجوهر على فعل الكتابة في حالين مختلفين…حال الصدى حيث يرجع ما كتب وهنا يتوقف الشاعر عن الكتابة لينصت لما خطه…وحال النون حيث ينغمس الشاعر في طقوس الكتابة…التي ستتحول بعد حين من الدهر إلى صدى خالد يردده الدهر..
فإذا أبحرنا في الديوان ألفينا الصدى والنون يردان كما يلي:
في نص القصيدة ص 9:
القصيدة أول ما قاله الطفل في مهده
من كلام قليل
خفيف الصدى
مبهم
———-
وفي قصيدة “أين ألقاك” ص 82، يقول الشاعر:
فهل تقبلين الصدى موعدا للقاء؟؟
هناك يحل الكلام
ولا حق إلا لظلين
لا خوف
وفي قصيدة “هل بت في حضنك” يقول الشاعر في ص 75:
أشعر أني كنت أقول كلاما
وأردّ سلاما
مازال صداك يراودني
الصدى في المقاطع الثلاثة يرتبط بالقصيدة دوما، لكن بإيحاءات مختلفة، فخفة الصدى في أولها ترتبط بالشعر/القصيدة، ويتحول في ثانيها إلى مكان للقاء حيث يحل الكلام وينتفي الخوف، بينما يرد بدلالته العامة في المقطع الثالث، حيث يحضر الصدى في غياب الشعر/القصيدة.
أما النون فقد وردت في قصيدة ساحة حب، يقول الشاعر:
ص 70
أن قصيدة حب تفسخ للعشاق طريقا للنصر
وتهزم من يبدعها
من نونٍ كانتْ فاكتملت في الليل قصيدتها
——
وقد وردت في سياق تلقي الشاعر لهدية ملغومة في القسم الثاني من الديوان، هذه الهدية الملغومة بالإبداع تفجرت وفجرت ما حولها، ولم ينج غير الشعر! مما جعلنا نميل إلى اعتبار هذه النون رمزا يحيل على ما يكتبه الشاعر، والصدى على أثر تلك الكتابة؛ مما يؤكد ثنائية المبدع/المتلقي، الصوت/الصمت، حتى إيقاع العنوان يميل إلى ثنائية المتدارك/الخبب، علما أني أميز بين البحرين باعتبار الأول يتضمن سببا فوتدا، بينما الثاني لا يتضمن الوتد.
ب – عنوانا القسمين، وعناوين الديوان:
قسم الشاعر ديوانه إلى قسمين، أولهما القصيد ويضم تسعة نصوص، والثاني القصيدة ويضم خمسة عشر نصا، ورغم أن الظاهر يميل الكفة لصالح القسم الثاني إلا أن توزيع الصفحات ينبئ عن قدر متساو بين القسمين؛ واختيار العنوانين يدل على انشغال الشاعر في ديوانه بالموضوع الذي اعتبرناه بؤرة العمل متمثلا في الكتابة التي تنتج القصيد/القصيدة، فالقصيد اسم جمع يفرد ويؤنث بإضافة تاء التأنيث، فيحيلنا العنوانان على ثنائيات: المفرد/الجمع، المذكر/المؤنث، العموم/الخصوص
القصيد/القصيدة، ركنا الديوان ينسجمان والموضوع المهيمن: الشعر، الذي يحضر بشكل صريح أو ضمني في كثير من عناوين نصوص الديوان.
القصيد
القصيدة
هكذا الشعراء
القصيدة
بلاغ
أنا كاذب
وحدها الشمس
قطعتي الماضية
هل يموت الشعراء
الآن سأفصح
نسيت شعري
رشحتك للشعر
محكمة
طالعك المحزون
ساحة حب
هل بت في حضنك؟
طوبى لمن..
أين ألقاك؟
كالسماء
هل يبكي الورد؟
جرب الآن
خوفا من الحب
أشهى من الحلم
قصتان
تعجبي
وصية
ج – المقتطف على ظهر الغلاف:
اختار الشاعر سبعة أسطر من النص الثاني المعنون بـ “القصيدة”، التي جاءت معرفة، واختيار هذه الأسطر ينم عن رؤية شعرية لمفهوم الشعر/القصيدة، حيث ينفي السطران الأولان ارتباط القصيدة بشكل خاص والشعر بشكل عام بالقول، ويحمل السطران دلالتين أثارهما تعدد الإحالة في الضمير المستتر المرتبط بفعل القول: أيعود على القصيدة نفسها؟ أم يعود على المخاطب؟ وحتى إن جزمنا بأحد الاحتمالين فإن الفراغات ستتعدد ، لأننا نعرف القصيدة من خلال القول لا من خلال نفيه، ويقذف بنا السطر الثالث في أتون الرؤيا الشعرية التي تمثل الإطار الناظم لبقية النصوص، حيث إن القصيدة تحيلنا على ذلك الكلام المبهم الذي قاله الطفل في مهده، أي قبل أن يعرف قوانين التخاطب اللغوي! فالشعر يقع خارج دائرة اللغة!
2 – الموضوع:
يهيمن موضوع الشعر على قصائد الديوان، يتجلى ذلك من خلال قراءة أولية لعناوين القصائد، وقبل ذلك عبر الركنين اللذين قسم بهما الشاعر ديوانه (القصيد/القصيدة)، وبقية الموضوعات التي سنعرج عليها تتصل بهذا الموضوع الرئيس: وسأقتصر من هذه الموضوعات الفرعية على اثنين: الحب والصمت.
ا – الشعر:
كلمة شعر ساحرة تحيل على عالم مدهش صمته كلام وصخبه سكون، وحبه حرب؛ وفي الديوان هيام خاص بالشعر، يسلم وحده من أتون الحرب (قصيدة ساحة حب)، وإن أرغم الشاعر على فراقه فإنه:
ربما منعوا الشعر ليلا
لنُشفى وإني كما تعلمينَ
إذا أرغموني
على أن أفارق شعري،
شربتُ الأسى،
ولعنتُ الشفاء.
لذلك لم يكن غريبا أن يكون أول الصدى “جنون”، عبر رحلة في غياهب الشعراء تحاول أن تظفر بسرهم المكنون ؛ وهكذا يوجه الشاعر خطابه إلى أسطره،(هكذا الشعراء) التي خشي أن تميل كل الميل، فيوجهها إلى فك قيده، كي تحرس نجمة تهم بالأفول، وقلبه يردد : إني لأحب الآفلين، فيؤكد لأسطره: احرسي…اسهري، كي ترقب في ذهول مشهد الأفول، بل إنه حريص على أن يرحل في مطلع القافلة وعين الشعر تحرسهم جميعا بعدما ضاقت الأرض وانطوت السماء، فلم يكن بد من ضيافة ذلك العالم المدهش: عالم الشعر، حيث عوامل الصراع البشري منتفية، والحرية باسطة ذراعيها بالقصيد: (لا أمير، لا حدود، لا جنود)، وذلك قصد جرعة مسكرة تنسي الشاعر أحزان الأرض، وحين تخلى الشاعر عن نواميس الأرض، وأدرك قانون العالم الجديد عالم الانتماء لأهل الجنون الشعراء التي لخصوها في هذا السطر الشعري الدال: (تكون إذن مثلنا حينما لا تكون).
راح يقلدهم: سكِر، فصار له في الجنون مقام، فنال احترامهم:
سكرت
وقلت بما لم يكنْ
كي يكون ص 6
يقذف بنا الشاعر في هذا العالم المدهش عالم الشعر والشعراء، ويدرك حيرتنا وعجزنا عن فهم عالم تَبِين فيه المدلولات عن دوالها: (صار الكلام سواه)، فيأتي النص الثاني ليحدد لنا مفتاح التواصل في هذا العالم الجديد: القصيدة؛ وعبر هذا النص نفهم بعض أسرار هذا العالم المدهش:
(القصيدة ما لم تقله وما لن تقوله.. القصيدة أول ما قاله الطفل في مهده – القصيدة غير الحروف … غير كل البحور – القصيدة عذراء لا مومس – القصيدة صوتك صمتك – القصيدة ألا تقايض بالشعر أرضا – القصيدة أنت – القصيدة أن تستعيد الصبي البريء)
بين الإثبات والنفي تتحدد دلالة القصيدة، وهي في الحالين تبدأ من صرخة الاحتجاج الأولى قبل أن يفتح الطفل عينيه، وتنتهي باستعادة تلك البراءة الطفولية بشرط الرجولة، وبتأمل الحقول الدلالية نلاحظ حرص الشاعر على الكرامة: كرامة القول والفعل والشرف.. ونفوره من تحول الشعر إلى كلمات تفقد حرارة الانتماء… بعد ذلك لا يهم أن تكون القصيدة صوتا أو صمتا.. بل هي كل ذلك… تذكروا جيدا الأهم: شرط الرجولة!
الآن آن لنا أن نبحر في الديوان …في عالم الشاعر بين رجع الصدى وتموج النون، فلا نمر بنص دون أن نرى أسطره تحتفي بموضوع الشعر، ففي القصيدة الثالثة “بلاغ”، نجد الشاعر أتعبه السكون (ولنتذكر أن: القصيدة ما لم تقله …وما لن تقوله) سكون اختاره بوعلام عمدا كي يكف عن الشعر …بيد أن الشعر اشتعل بلاغة:
متعبٌ بالسكونِ
تعمدته كي أكف عن الشعر
لكنه صار أبلغ..
من علم الصمت هذي البلاغةَ؟
وفي القصيدة نفسها يصدمنا الشاعر بأنه متعب بالفراغ الذي نقرأه، لأن الصوت صمت… والكلام الكثير جاء بعد القصيدة التي لن تبرح صرخة الطفل الأولى المبهمة…لذا فإن الشاعر أرقه الرقن، والقارئ المغوي ما زال في غيه سادرا يحلل يحلل اللاقول:
لم يزل قارئي يدرس العتبات
يحلل ما لم أقله
ومن هنا تبدأ العلاقة في التوتر بين القارئ والشاعر، أو بين النقد والإبداع، وكأننا – معشر القراء – نجري ضد تيار الشعر، إن جف حبر الشاعر فحبرنا يفيض، وإن فاض حبره فحبرنا يَغيض:
يجف إذا فاض حبري
وإن جفّ حبري استفاض
ومن هنا يوجه الشاعر لنا عتابا ضمنيا لأننا نحتفي بالكلام المقول، ولا نحتفي بمسبباته ولا بالآلام التي تسبق لحظة الولادة الشعرية:
لا يذكر الحمل قط
ولا يحتفي بالمخاض ص 19
وإذا كان الناقد العربي القديم قد أقر بأن “أعذب الشعر أكذبه”، فإن شاعرنا لا يحتفي بتبريرات النقاد لمفهوم الكذب وتشريح دلالاته، وإنما يعلنها صريحة في القصيدة الرابعة: “أنا كاذب”، ومن هنا ندرك دلالة شعرية الصمت:
أنا كاذب في كل ما أحكي لكم
….
أنا كاذب لما أقطع أسطري
إن العملية الشعرية تغدو برمتها عملية كاذبة لأن الشاعر ماكر لا يصف القصيدة كما هي:
لا أتقن العنوان
لا أصف القصيدة كما هي
ماكر…
وبتأمل العلاقة السالفة بين الشعر وقارئه، نجد أن الشاعر يعترف بأنه صار:
ساديا
يحلو له رغم العزوف عن القصيدة
أن يعذب بالغموض ص 30
إن الكذب الذي يمارسه الشعراء ويتجلى في الشعر ليس صنعة فنية كما قرر ذلك النقاد القدماء، وإنما كون الشعر صار استغلاليا، والأشعار غدت تتنافس بينها لا تحس بمعاناة ولا آلام وإنما تستفيد من سقوط الأشياء لتنعم بالنهوض: كذب هي الأشعار ص 31
ورغم كل هذه الأحكام القاسية فإن الشعر يخبر الشاعر بأنه سينعم بالخلود ولن يموت، ففي قصيدة بعنوان: هل يموت الشعراء؟ يأتي الجواب جازما منذ السطر الأول:
لن أموت
كذلك قال ليَ الشعر هذا المساء ص 41
وبهذا فإن الشعر يرفض الموت، لأنه خالد خلود الشهداء، الفرق الوحيد أن الشهيد يزف بعد أن ترى دماؤه، بينما تنزف الحروف دون أن يُنتبه لدمائها!
وإذا كان الشاعر في أولى القصائد حل على الشعر ضيفا لينسى (حللت على الشعر ضيفا لأنسى) ص 6، فإن النسيان ينشر جناحه ليشمل الشعر أيضا، حيث يختم الشاعر هذا القسم بالقصيدة التاسعة “نسيت شعري” وهي قصيدة تتوغل في عمق موضوع الشعر، وتبين أن الشاعر قد نسي الشعر الذي دعي ليقرأه إلى درجة أنه صار يتساءل:
من فاطر هذا ومبرئه؟
وهي قصيدة يمتزج فيها موضوع الشعر بموضوع الحب، ليكشفا عن علاقة وطيدة ترسم ملامح القول، يغدو فيها الهوى باعثا للقول الشعري، ومعالج كسوره ، ويغدو الشعر منصفا، فنجد الحب (شغف، جنون العشق، أهوى ، هوى ، تهوى، حب الشعر، أحب الشعر، قال حبا)
ب – الحب:
الحب نور ونار، غصن شجرة خضراء، وقطعة رمل تائهة في الصحراء، كل القلوب تنبض، لكن شتان بين نبض مترع بماء الحب، أو محترق بناره، وقلب جافٍ جافٍّ، وفي بلاغ الشاعر نلفي عتابا قاسيا للفؤاد الذي لم يلزم الحياد، إذ ترك الشاعر وحيدا يصارع أمواج الحياة، وهوى غيره وبايع سواه:
كيف يهوى سواي وأشقى وحيدا
لماذا يبايع غيري
وقد كان مني ولي…؟
كان يكفيه
لو كان حقا فؤادي – الحياد ص 23
وأمام هذا الخذلان غير المتوقع يؤوب الشاعر إلى حضن أمه كي يستعرض قصاصات حب تسعفه في الحفاظ على توازنه:
من يحبك يا ولدي
يحفظ الحزن
قالت –
ولا يكتفي بالبكاءْ
من يحبك
جذعك
أو بعض فرعك
إن أدرك الغصنُ معنى البقاء ص 25
والملاحظ أن لون الحب يبدو باهتا في هذا القسم، حيث لا يجذبنا إلا في هذا النص، ونص : نسيت شعري مما بيناه سابقا حين تحدثنا عن علاقة الشعر بالحب، بل إن الشاعر يصرح بأنه لا يحب وإنما يدعو لحرب ضد من سرقوا السلام. (قصيدة أنا كاذب).
غير أن هذا اللون يتوهج في القسم الثاني من الديوان، حيث ترفرف أزهار الحب ويتردد صداه ملء القصائد، حتى خطف نون الشاعر وتردد صداه بين الحروف، إذ جعله الشاعر المركز وقطب الكلام:
كل الذي يأتي من الكلمات
بعد “أحب”
يحطمها ويسكنني العراء
والحب ومضة نورانية لا تكرر، خاصة إذا كانت المحبوبة قصيدة شعر:
هي هذه،
هي من أحب
ولن أكرر حبها حتى لها..
هي نفسها تبدو سواها حين تذكر كالنساء ص 88
ومراعاة لمقام هذه القراءة سنقف عند نصين اثنين ينضحان بهذا الموضوع كما يشي عنواناهما: “ساحة حب” و”خوفا من الحب”.
في ساحة حب نرى حربا باردة تنتهي بقذائف وشظايا، تبدأ الحكاية بهدية ملغومة قادمة من الزمن البائد لقلب الشاعر المهجور:
من زمني البائد
جيء لقلبي المهجور قديما بهديّه
هذه الهدية الملغومة أغوت الشاعر وجردته من أسلحته بعدما وسوست له أن قصيدة الحب قد تهزم الشاعر المبدع، هذه الهدية النورانية، يكشف لنا الشاعر أصلها :
من نون كانت فاكتملت في الليل قصيدتها
من نور جاءت فأضاء الكون بطلتها
مما جعل الشاعر يدخل ساحة الحب/الحرب عبر أفعال تتراص لتكثف المشهد الحامي الوطيس في حرب يبدو أنها غير متكافئة، جعلت الشاعر ينهزم لأول مرة، لأن سلاحه لم يكن السلاح: سلاح الحب هزم الشاعر وجعله ينهزم في ظرف وجيز:
هُزمتُ لأول مرة
كانت حربا يغنم فيها الأبعد قربا
ويعاقب بالبعد قريب ينضح حبا
كانت أول حرب تغلبني في نصف صباح وعشية
غير أن الجميل في هذه الحرب التي فجرت كل شيء وأحرقت الأخضر واليابس، أنها لم تمس الشعر بسوء، إذ بقي شامخا، تتطاير شظاياه في ساح الوغى، فكانت هذه الشظية/القصيدة التي تصف ساحة الحب إذ استعرت فيها الحرب، وكانت بقية الشظايا متناثرة بانتظام في الصدى والنون.
ولعل هذه التجربة المتفردة التي يصرح فيها الشاعر بهزيمته في ساحة الحب، مع نصر إبداعي كبير تجلى في الحفاظ على الشعر؛ جعلت الشاعر ينظر إلى الحب نظرة يملؤها الإعجاب ويجللها الخوف، وهو ما تجلى واضحا في قصيدة : خوفا من الحب؛ ص 91؛ إذ يدرك ضبابية الحب وغوايته، فالشاعر يصرح بأنه لا يفرط في الحب لكن يخشى عليه منه، فالحب مثل طائر: لك الحق في رؤيته واشتهائه، لكن لا حق لك في تملكه، لأنه سيفلت بين يديك ولا يترك لك سوى الندم؛ وكأن هذا الطائر وذاك الحب، ليس سوى الشعر الصعب الطويل سلمه !
ج – الصمت
هذه العلاقة المعقدة بين الحب والشعر، أثمرت موضوع الصمت وهو موضوع ذو جمالية خاصة في الديوان، ملتبس بالموضوعين السالفين، موجود قبلهما، مستمر بعدهما؛ كيف لا والشاعر كما رأينا يجزم بأن القصيدة ما لم تقله وما لن تقوله؛ القصيدة في جزء منها تجل لصمت الشاعر، وهل ينفع الكلام الكثير الذي لا يستحضر الصرخة الأولى؟
رأينا كيف أن الشاعر يتعمد السكون والصمت، باعتباره خيارا آمنا يجنبه مشقة التعب، ورقن الكلم وتصفيفه، وانتظار ما تحدثه النون من صدى!! لكن هذا الصمت يجعل الشعر أبلغ من الكلام الكثير:
من علم الصمتَ هذي البلاغةَ؟
إن هذه البلاغة مبثوثة في الكون، والشمس تقدم درسا بليغا دون أن تنبس ببنت شفة، ففي قصيدة “وحدها الشمس” نجد جمال الصمت ممتزجا بجلال الفعل، فالشمس كما يقول الشاعر:
ترسم لوحاتها
ثم تُمضي عليها سريعا
ولا تقبل الشرح للزائرين ص 33
والشمس وحدها تدخل جميع البيوت دون أن تنبس:
وحدها الشمس تدخل كل البيوت
وتحفظ أسرارها
لا ترى الكلماتِ على شفتيها ص 35
وهذا الصمت هنا ليس عجزا وإنما ثمة قدرة للشمس على الحكي لكنها تختار الاحتراق في إيثار قل نظيره:
وحدها من لها قدرة الحكي عن كل هذا الزمان
ولكنها تكتفي باحتراق 37
والشاعر يحترق مثل الشمس، فيحس بأن صمته صارخ، ويروم التخلص من صوته المبحوح الذي لا يكاد يبين هذا الاحتراق، حيث يتساءل في بداية قصيدة “الآن سأفصح” :
من يخرس هذا الصمتَ،
يفجر في نفسي صوتي المبحوح؟
الآن سأفصح عني
وأبوحْ…
لكنه يركن إلى الصمت، ما دام الجرح واحدا في الحالين: الصمت والصوت:
لن أكتب شيئا،
لن أتودد للحرف وإن كان دواء
فأنا المجروح
إذا لم أكتبْ..
وإذا أكتب ذاك المجروحْ.. ص 44
غير أن صوتا نورانيا يخاطب الشاعر في القسم الثاني بأنه يسمع صمته، وما يمور في جوفه، تطلب من الشاعر الخروج عن صمته وأن يدندن ولو بالميم:
اكتب دندنة
أو دندن بالميم فقط،
هذي بعض عصافيري في الشرفة
تخبرني ما يلهج في صدرك،
تدنيني منك
فأسمعني في جوفك،
صوتي وحدي عندك.. (رشحتك للشعر 54 -55)
والشاعر نفسه يدرك سر هذا المخلوق النوراني ويسمع روعه بين هدوء السطرين، ويسرّ إليه الصمت أوان عبور الإعصار:
أسمع روعكِ بين هدوء السطرين
وأعرف قبل الإعصار متى يعبر
حين يسرّ إليّ الصمتُ
بأبدع ما في الصمتِ (طالعك المحزون 64)
وهكذا يتحول الصمت إلى لغة متبادلة بين الشاعر ولحظة الإلهام/القصيدة، فهي تقرأ صمته ولحظة المخاض التي يغفلها القراء، وتدرك النار التي تلهب صدره، فتطلب منه الدندنة ولو بالميم، فعصافير الشرفة كفيلة بترجمة تلك الأحاسيس، والشاعر أيضا يقرأ الصمت الدال بين السطور، ويعرف لحظة الإعصار التي يسر إليه بها الصمت؛ وهكذا يتردد صدى النون بين الشاعر وقصيدته قبل التجلي في الحروف، فتسمع هي صدى النار الحارقة في صدره لحظة المخاض المبهمة، ويسمع هو صدى أنينها ويقرأ طالعها المحزون قبل أن تتجلى في الحروف؛ ويفهمان بعضهما جيدا؛ وحين يتشكلان في القصيدة، يبقى القارئ هائما بين الدلالات الظاهرة لا ينفذ إلى الأعماق، لا يحتفي بلحظة المخاض، ولربما اكتفى بقراءة العتبات وتحليل ما لم يقله الشاعر!
3 – التصوير
تحظى الصورة بمكانة خاصة في الأدب عموما والشعر خصوصا، إذ تعتبر جوهر العمل الأدبي، والديوان حافل بالصور الشعرية، سواء أكانت صورا جزئية أم صورة كلية.
فالصور الجزئية حاضرة في كثير من الأسطر الشعرية، تقوم هذه الصور على المنافرة وخلق عالم غريب يجمع بين المتناقضات؛ ومن ذلك قول بوعلام:
متعب بالسرور ينغص أحزان قلبي ص 21
وقوله:
من يخرس هذا الصمت؟ ص 43
بيد أننا في هذه الورقة سنعمل على رصد الصورة الكلية التي نجدها حاضرة بقوة في قصائد الديوان؛ وهذه الصورة الكلية تنسجم مع ما رأيناه سلفا من حضور بارز لموضوع الشعر، إذ نجد الشاعر حريصا على تقديم صورة كلية للشعر وإن اتخذت أشكالا فرعية، فهي بمثابة الأغصان التي تمثل الشجرة العامة.
إن الصورة العامة التي يرسمها الشاعر تتلخص في القصيدة الأنثى الغامضة التي تخفي أسرارها حتى في لحظة البوح وكسر حاجز الصمت؛ والشاعر يضن بالتصريح عمن يخاطبه بصيغة الأنثى، لكن يعطينا بعض المعالم:
إنّ الذي أهوى شبيه بالسماءْ
…..
هي تحفة في خاطري
أبدي لسواح المدينة كل شيء غيرها …
هذي التي لا أربعونَ لها
ولا حتى شبيهٌ واحدٌ
……
هي نفسُها تبدو سواها
حين تُذْكَر كالنساءْ (كالسماء ص 86-88)
والديوان في عمومه يمثل قصة مصورة بلغة مترعة بالخيال والعاطفة والأحداث، يمثل فيها الشعر المبتدأ والمنتهى، حيث يبدأ برحلة الشاعر وأفوله عن عالم الأرض ليلج عالم الشعر بمتناقضاته، وينتهي بوصية تلخص تجربة الشاعر عبر هذه الرحلة الأسطورية قبل أن يعود إلى العالم السفلي!
وهكذا يمكن أن نفكك هذه الصورة العامة إلى جزئياتها قصد فهم وظائفها في الديوان وعلاقتها بأهم الموضوعات السالفة:
1 – في ضيافة الشعر
يصور الشاعر في القصيدة الأولى رحلته حين حل ضيفا على الشعر قصد نسيان ما يمور به العالم الأرضي من تناقضات، والصورة تتركب من حالِه لحظة المغادرة (ضاقت الأرض بي – السماء انطوت) في إشارة إلى كآبة العالم الأرضي الذي جعل الشاعر يستثمر أول فرصة سانحة لمغادرته (طرت في أول الرحلات) (جئت في مطلع القافلة)؛ حيث إن ضيق الأرض وانطواء السماء يقابله فعل الطيران من الشاعر فرارا من سوداوية الواقع، والغرض واضح: النسيان (حللت على الشعر ضيفا لأنسى). وتتركب أيضا من حاله في اللحظات الأولى من التأقلم مع هذا العالم الذي لجأ إليه، حيث إن الحضور يتطلب غيابا، والكينونة تتحقق بضدها عبر المبدأ المشار إليه آنفا: ‘تكون إذن مثلنا حينما لا تكون“، إنه مقام الجنون الذي فهمه الشاعر وعمل على الامتثال له، فعب من الشعر ما يسكر، وقال بما لم يكن كي يكون: (سكَرت وقلت بما لم يكن كي يكون) فاكتملت الصورة وتحقق التأقلم والوفاق (فنلت احتراما من القوم أهل الجنون). كما يصور لنا الشاعر معالم هذه الدولة الجديدة التي طار إليها في أول الرحلات، والتي لا يمكن السفر إليها إلا عبر تأشيرة الجنون: (لهم دولة لا أمير لها لا حدود لها لا جنود) إذ نلاحظ تضافر المنفيات في وصف هذه الدولة الشاسعة، ولم تكن تلك العناصر المنفية غير ما يسبب الصراع بين أهل الأرض : التنازع حول الإمارة، والحرب حول الحدود، واستعمال الجنود في ذلك، أما الدولة الجديدة فإنها خالية من ذلك…على الأقل لحظة الضيافة الأولى، أو كما كانت تبدو للشاعر.
2 – اكتشاف العالم الجديد:
بعد الضيافة يشرع الشاعر في تصوير تفاصيل العالم الجديد بريشة الفنان الشاعر، ولعل أبرز تصوير في هذا المقام هو ما خص به الشعر، وكيف أثرت هذه الصورة على حالة الشاعر ونظرته للوجود وللشعر نفسه..
صورة القصيدة:
ففي نص القصيدة ومنها المقطع الأول المصطفى على ظهر الغلاف يبدو أثر مقام الجنون واضحا في رسم معالم القصيدة، إذ جردها الشاعر من القول ماضيا ومستقبلا، وحددها في أول ما قاله الطفل من كلام مبهم، وبعد ذلك يأتي الكلام الكثير الذي قد يتفنن في بديع القول ويمتطي صهوة البلاغة ويخوض غمار البحور الشعرية…لكنه يبقى مجرد كلام ولا يظفر بسمة القصيدة.. إن الشاعر وهو يصور القصيدة يلح على ميزة التفرد التي يجب أن يتحلى بها الشعر بعيدا عن التقليد أو إعادة نظم الأفكار والمعاني دون روح أو إحساس.. يريد القصيدة روحا متفردة تنبض بالحيوية.. ولعل الملحوظة البارزة أن اكتشاف الشاعر هذا العالم الجديد جعله يستحضر صورة الشعر في العالم الأرضي، لذا آثر ريشة أسلوبية متميزة في تصوير القصيدة ترتكز على ثنائية الإثبات والنفي، الإثبات يشير إلى ما اقتبسه الشاعر من العالم الجديد (القصيدة أول ما قاله الطفل – القصيدة عذراء – القصيدة صمتك صوتك كلك – القصيدة أنت – القصيدة أن تستعيد الطفل البريء)، والنفي يحيل على رفض معالم العالم القديم [القصيدة ما لم تقله وما لن تقوله – القصيدة غير الحروف.. – لا مومس تنتهي في المساء إليها – لا مشهد عابر من شريط قصير – القصيدة ألا تقايض بالشعر أرضا – تجنب فقط أن تعيد الذي قاله الآخرون).
صورة الشاعر:
يصور الشاعر نفسه في نصيه الثالث والرابع بعد أن أدرك مفهوم الشعر في دولة المجانين؛ ففي بلاغ يتألف من 10 مقاطع شعرية تتفاوت دفقاتها حسب نفس الشاعر، يهيمن التعب على صورة الشاعر لأنه أدرك المعنى الحقيقي للشعر وأنه آثر الصمت والسكون كي يكف عن الشعر، لكن مقام الجنون سيجعل هذا الصمت أبلغ، فالشاعر أراد أن يعمل بقوانين الأرض “الصمت حكمة”، لكنه نسي أن قوانين الدولة الجديدة مختلفة فكان التعب السمة المهيمنة على صورة الشاعر في مختلف تجلياته… وبعد أن أدرك الشاعر صورته وتقبلها، عمل على نقلها لقرائه كي يضعهم في السياق من خلال القصيدة الرابعة “أنا كاذب”، آملا أن يمنعوه من الكلام ويجبروه على الصمت كي يقول الشعر، لأن الصمت أبلغ، لذلك كانت صورة الشاعر الكاذب في هذا النص تقريعا من الشاعر لنفسه، واعترافا لقارئه بأنه اكتشف أن ما قاله من “شعر” كذب لأنه انتفت عنه تلك المعالم التي وضحها في النص الثاني.
الهدم من أجل البناء
بعد أن تأقلم الشاعر مع الوضع الجديد وأدرك معنى القصيدة وتأثير ذلك على صورته انتقل إلى البناء الجديد فاختار الشمس ليرسم على نورها مشكاة الشعر الجديدة، فكانت قصيدة “وحدها الشمس” صورة نابضة للحظة البداية في القول الشعري، حيث إن رحلة الشاعر واكتشافه هذا العالم الجديد جعله يعيد النظر إلى الوجود ، فكانت الرؤية الشعرية تغرف من صورة الشمس في علاقتها بالكون والوجود، لذلك تأتي القصائد الأربع التالية أسسا لهذا البناء الجديد، حيث يتشكل الشعر بطريقة جديدة ، إذ نلفي في قصيدة “قطعتي الماضية” هدمَ القديم “الكاذب” (أحمل فأسي..أرمم…تماديت حتى هدمت القصيد.. ضاع مني الذي كان شعرا)، وهذه العملية الجراحية جعلت الشاعر يتساءل “هل يموت الشعراء“، ليأتيه الجواب مطمئنا من الشعر نفسه “لن أموت“؛ فيتشجع الشاعر على الإفصاح والعزم على الكتابة بطريقة جديدة تخرس الصمت الصارخ، وتفجر الصوت المبحوح، وقبل انبلاج الكتابة في القسم الثاني لا بد من نسيان الشعر بصورته “الكاذبة” في قصيدة “نسيت شعري“، إلى أن جاء الشعر في آخر النص منصفا ليكون فعل البداية مؤشرا على نهاية هذا القسم، وبداية الشعر الجديد في القسم الثاني.
البناء الجديد (القسم الثاني = القصيدة)
القصيدة التي حدد معالمها في النص الثاني من القسم الأول ، تبزغ بهيئتها المكتملة في القسم الثاني، حيث ترشح القصيدةُ الشاعر في النص الأول “رشحتك للشعر” وتعطيه طقوس الشعر من أجل أن يصورها انطلاقا من هذه التجربة الجديدة وهذا الإدراك المتجدد:، حيث يهيمن صوت القصيدة متوجها إلى الشاعر: رشحتك للشعر – فقم ص 51، رشحتك للشعر – فكن في الموعد ص 55، وتمده بأدوات الشعر (الليل والكأس والمخيال) وطقوسه، كي يرسمها كلاما أو يدندن بالميم فقط، فهي تفهم ما يقول، وتبصر صدى دندنته الميمية.
بداية المغامرة والبحث عن البراءة
يعزم الشاعر على خوض المغامرة فيصور لنا في قصيدة محكمة قاعة المحكمة بقضاتها ومستشاريها والمدعية/القصيدة، وهو المتهم يحاول أن يبرأ مما قاله من شعر في سالف الأوان، في موعد الشعر أتت القصيدة بنقدها ونقضها ونصبت ميزان العذل وما أجمله من جناس صار فيه ميزان العدل ميزان عذل، وحضر النابغة بحمولته الثقافية إلى هذه الخيمة /المحكمة. وتزدان الصورة بنفي الشهود للتهم الموجهة لشاعرنا، وتبرئة القلب ما في السطور وما بينها، لكن القصيدة تصر على قراءة الفراغ، والتهمة الموجهة:
هذا الذي كان يكتب للطهر شعرا
ولا يستحم بشعرهْ
والشاعر يعترف بهذا ، أو لم يكتب من قبل نصه الدال “أنا كاذب”، فيقول في محضر الاعتراف:
وأجزم أني كذلك كنتُ
ويقسم للمحكمة بالبياض، وبالصمت….وبعد المداولة يأتي القضاة يجرون حلم الشاعر إلى المقصلة، وذنبه أنه دون ذنب!
وبعد أن يقرأ الطالع المحزون في عيني القصيدة (طالعك المحزون) يخوض الحرب في ساحة حب مما فصلنا فيه آنفا، وهي صورة تعكس ضراوة المعركة، قبل أن يستفيق الشاعر متسائلا عن ليلة مبيته : هل بت في حضنك؟ وهي قصيدة تنبني على الأسئلة التي تكشف هول المعركة التي خلخلت الصورة:
هل بتّ الليلة في حضنك؟..هل كنتُ بلا صوت؟ …هل جئتك في صحو أم في سِنةٍ؟ ..هل كنت بوعي؟
غير أن الشاعر يدرك أن العاقبة للصابرين في هذه المعارك مادام سلاحَهم الحبُّ:
وطوبى لمن صارع الموجَ حتى أتم القصيدَ (طوبى لمن ص 81)
لذا يطلب موعدا للقاء حبيبته النورانية ويقترح عليها الصدى موعدا للقاء (أين ألقاك) ص 82، وفي هذا النص نكتشف أن القصيدة قد صارت مكانا للقاء أيضا:
في القصيدة ألقاك بعد العشاء ص 84
مما يجعلنا نذهب إلى أن القصيدة ليست سوى تجل لتلك اللحظة النورانية التي يطاردها الشعراء، فهذا السطر يذكرنا بقول الشاعر من قبل:
وأسمع نايكِ في شعري
وأنا المعصوب الشطرينِ
أقاد إلى الليل
أسيرا
ثم أعود طليقا
أفرح بالنصّ وأنساكِ
فما أقساني..!!ص 65
فالشاعر يقاد إلى اللقاء في الصدى والقصيدة أسيرا، لتحرره هذه المخاطبة في الديوان، ويعود جذلان بالنص المتجلي في الحروف، ناسيا من حررته؛ وبهذا تكتمل الصورة بأن القصيدة المطاردة في الديوان هي تلك اللحظة الهلامية النورانية، لا نطلع نحن والشاعر سوى على نونها وخطوطها، ولا نسمع سوى صداها، وهو ما يفسر ذلك الاختيار الواعي من لدن الشاعر لعنوان مجموعته: “الصدى والنون“، وذلك المقطع الدال على ظهر الغلاف: “القصيدة ما لم تقله…وما لن تقوله“.
الإيقاع
الشاعر بوعلام دخيسي حريص على الجانب الإيقاعي في كتابته الشعرية، وقد تجلى حرصه في هذا الديوان الذي ينتصر لشعر التفعيلة، ولا سيما بحر المتدارك الذي يهيمن على القسم الأول، حتى القصيدة الوحيدة في الديوان التي تؤوب في أصلها إلى بحر البسيط بالشطرين المتناظرين، اختار الشاعر تفكيكها.
هذا الميل لشعر التفعيلة يقابله من جهة أخرى احتفاء خاص في النص ذاته بالعروض العربي، حيث نجد عدة أسطر شعرية توظف علم العروض في البناء النصي:
يعود إلى الشعر أهل الصبا الراسخونَ
يهيمون في البحر حينا
وفي الكسر حينا…
ولا يذكرون القصيدهْ،
القصيدة غير الحروف تضم إلى بعضها،
غير كلّ البحور
وما بعدها من سواحل لا تنتهي (القصيدة ص 10)
وفي قصيدة أخرى:
أنا كاذب لمّا أقطّع أسطري
لما أجادل:
أيُّ بحر من بحور الشعر أركبه لأُنقذ من غرق..؟
لما أناور بين شطري كل بيت
حين ألعن من سرق..
…
أنا كاذب
أقتات من فوضى الحكاية
كي أرتّق ما أطرز من كلامي
بالعَروض (أنا كاذب 28-29)
وفي نص آخر:
أكذب سيدتي
إن جربت جميع بحور الشعر
لأكتب في عينيك ولم أنظر في عينيك
وقد فاض النبع
يراودني عن شعري،
يمنحني الفرصةَ
أن أهب العرب البحْر السابعَ عشْرْ.. (طالعك المحزون ص 67)
لا شك أن اختيار المتدارك في القسم الأول له دلالته، فهذا البحر أهمله الخليل وتداركه العروضيون من بعده، لذا سمي المتدارك، هذا البحر الذي كان مهملا في التراث الشعري العربي، عرف تحولا بارزا مع القصيدة التفعيلية الحديثة، إذ أصبح يحتل حيزا بارزا في اختيارات الشعراء، في القسم الأول يهيمن هيمنة مطلقة إذ شمل ست قصائد من تسع، أما الثلاث الأخر، فقد كانت واحدة على البسيط، وثانية على الخبب، وثالثة على الكامل؛ وفي القسم الثاني هيمن الكامل بخمس قصائد، يليه الخبب بأربع قصائد، ثم المتدارك بثلاث قصائد، والمتقارب بقصيدتين، والرمل بقصيدة واحدة.
وتكشف هذه الإحصائيات عن ميل واضح لما يسمى بالبحور الصافية، وهو ينسجم مع الخط الحديث الذي تبناه الشعراء المعاصرون الذين لم يغامروا في نظم شعر التفعيلة على البحور المركبة، إذ ليس أمامنا سوى نص واحد: نسيت شعري، نظمه الشاعر على بحر البسيط، وبتأمل إيقاع هذا النص نجده يؤوب في الأصل إلى نظام الشطرين، إذ يمكن إرجاع 31 سطرا في هذا النص إلى أصلها الإيقاعي المكون من تسعة أبيات بنظامها الخليلي المعروف.
ولعل اعتماد الشاعر على التدوير جعل بعض الأسطر يتعدد انتماؤها في الظاهر إن لم نستحضر الإيقاع العام للقصيدة، خاصة تداخل المتدارك بالمتقارب لانتمائهما للدائرة نفسها، ففي القصيدة الأولى – مثلا – المنظومة على بحر المتدارك، إذا عزلنا هذا السطر (تكون إذن مثلنا حينما لا تكون) نجده بإيقاع المتقارب، والعكس صحيح أيضا، ففي قصيدة محكمة نلفي ظاهر السطر الآتي من المتدارك: (هاؤها اللادغة = فاعلن فاعلن).
إن اعتماد التدوير أضفى حيوية وتنويعا على الإيقاع رغم اعتماد الشاعر وحدة التفعيلة.
كما نوع في الروي والقوافي مما جعل الإيقاع يتخذ أشكالا مختلفة، ففي قصيدة رشحتك للشعر المنظومة على تفعيلة الخبب، نجد الشاعر اعتمد في الأصل روي اللام مع قافية مترادفة مقيدة بشكل دوري يمكن تحديده كما يلي:
س 7 = الأمثالْ ، س 10 = المخيالْ، س 20 = سجالْ، س 31 = الموال، س 44 = الترحالْ
فإذا كان النفس الشعري الأول استغرق 7 أسطر ، فإن الثاني لم يتجاوز ثلاثة، بينما الثالث امتد إلى 10، والرابع إلى 11 والخامس إلى 13، إذ نلاحظ أنه بعد انحناء النفَس صار يمتد بشكل مطرد. وهكذا نجد الشاعر يحافظ على هذا النمط الإيقاعي الذي يحتفظ بالقافية والروي في إطار التعدد.
ومن صور الإيقاع الداخلي الذي أضفى على الديوان نغمة موسيقية تشد أذن المتلقي التكرار، الذي نجده حاضرا بقوة في كثير من النصوص الشعرية؛ والتكرار في هذه الحالة ليس له وظيفة نغمية فحسب، وإنما وظيفته دلالية تؤكد المعنى على غرار ما نجده في النص الثاني: القصيدة، حيث يتم تكرار القصيدة سبع مرات في كل مرة إيذان بصفة جديدة تؤكد رغبة الشاعر في إضفاء سمات مميزة على القصيدة عبر تكرار الموصوف؛ وهو ما نلفيه أيضا في نص “بلاغ” حيث تكرار كلمة متعب مع بداية كل مقطع حرصا من الشاعر على إبراز هذه الصفة التي شكلت أساس بلاغه الشعري. وفي نص “أنا كاذب” نجد تكرار هذه الجملة الاسمية 4 مرات، وبعدها في النص نفسه، يكرر عبارة “كذب هي الأشعار” ثلاث مرات.
دون إغفال ظواهر إيقاعية أخرى حفل بها الديوان مثل الجناس (نون، نور) (صوتك، صمتك) (حربا، حبا)..