بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على محمد النبي الكريم وآله وسلم
قال الفقيه الأستاذ أبو محمد- رحمه الله ونضر وجهه-:
سألتني- أدام الله عزتك، وحرس من النوائب حوزتك- عن قول الناس لهذا الحب المشهور: حب الملوك، وذكرت أن بعض أهل الأدب نازعك فيه، وأبى إلا فتح الميم، وزعم أن ضمها خطأ؛ لأن هذا الحب لا يختص بالملوك دون غيرهم من الناس، فلا معنى لإضافتهم إليهم، وما الخطأ- أعزك الله- إلا ما قال؛ لأنه قد جمع بين الغلط في الاشتقاق، والغلط في الإعراب معًا.
أما الخطأ في الاشتقاق فإنه إذا فتح الميم كان اسم مفعول من لاك الشيء يلوكه، سمي بذلك لأنه يلاك، وهذا غير صحيح؛ لأن اللوك إنما يستعمل فيما يمضغ ويدار في الفم مرة بعد مرة، وليست هذه الصفة موجودة في هذا الحب، وكذلك قال صاحب كتاب (العين): اللوك: مضع الشيء الصلب، وإدارته في الفم، وأنشد:
(ولوكهم جزل الحصى بشفاههم ... كأن على أكتافهم علقًا صخرًا)
وقال أبو العباس المبرد في (الكامل): «يروى أن أحيحة بن الجلاح الأنصاري- وكان يبخل- إذا هبت الصبا طلع من أطمه، فنظر إلى ناحية هبوبها، ثم يقول: هبي هبوبك قد أعددت لك ثلاثمئة وستين صاعًا من عجوة، أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات، فيرد علي منها ثلاثًا؛ أي لصلابتها بعد جهد ما تلوك منها اثنتين».
وحكى ابن القوطية في (الأفعال): لاك الشيء لوكًا مضغه وفيه صلابة، وقال ذو الرمة//:
(كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك)
وصف إبلاً تحك بعض أنيابها ببعض فتصر، أي: تصوت، وشبه صوت أنيابها إذا لاكت بعضها ببعض بصياح البزاة.
وقال أبو تمام الطائي في الخيل:
(في مقام تلوكها الحرب فيه ... وهي مفقودة تلوك الشكيما)والشكيمة: الحديدة التي تدخل في فم الفرس من اللجام، فهذا كله يبين لك أنه لا وجه لوصف الحب بأنه يلاك.وأما الخطأ من جهة الإعراب فلأنه إذا فتح الميم صار (الملوك) صفة من الصفات فلزم أن يقول: الحب الملوك، فإذا قال: حب الملوك أضاف الموصوف إلى صفته، فإن قال: قد حكي عن العرب أشياء أضيفت فيها الموصوفات إلى صفاتها، نحو قولهم: صلاة الأولى، ومسجد الجامع، فما الذي يمنع أن يجعل من هذا الباب؟ قيل له: يمنع من ذلك شيئان: أحدهما: أن هذا الباب موقوف على السماع لا يجوز القياس عليه؛ فلو صحت عندنا رواية، أو ورد سماع، بفتح الميم لجعلناه من هذا النوع، فإذا عدمنا السماع حملناه على ما يستعمل الجمهور، ولم نعدل عنه إلى شيء فاسد في القياس؛ لأن إضافة الموصوف إلى صفته خطأ.والثاني: أنا- إن جعلناه من هذا الباب على ما أراده هذا المخالف لنا- لزمنا أن نجعل (الملوك) صفة لموصوف محذوف، وتقديره: حب الطعام الملوك، ونحو ذلك؛ لئلا تلزمنا إضافة الموصوف إلى صفته كما قال النحويون في قولهم: صلاة الأولى، ومسجد الجامع، أن تقديره: صلاة الساعة الأولى من زوال الشمس، ومسجد اليوم الجامع، وإذا قدرنا هذا التقدير لزمنا أن نطالب بالعلة التي لها أضيف هذا الحب إلى الطعام الملوك دون غيره من أنواع [الحبوب]، ولزم هذا المخالف من تخصيصه هذا الحب بالإضافة إلى طعام الملوك دون سائر الحبوب، مثل الذي ألزمنا في إضافته إلى الملوك دون سائر الناس، فقد فر من شيء ووقع في مثله مع ارتكاب القياس الفاسد، ومخالفة السماع، ولزمه مع هذا كله أن يقال: ما وجه إضافته إلى الطعام الملوك، وليس هذا الحب مما يلاك.
فإن قال قائل: فما الوجه// في إضافته إلى الملوك دون غيرهم وليس مختصًا بهم؟ فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن هذا السؤال لا يلزم؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم مشتق من معنى موجود فيه ولا يسمى غيره بذلك الاسم، وإن وجد فيه ذلك المعنى؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تصير الأشياء الكثيرة شيئًا واحدًا فيرتفع البيان، ألا تراهم قد سموا بعض النجوم (سماكًا) لسموكه، وهو ارتفاعه، سمو بعضها (دبرانًا)؛ لأنه يدبر الثريا، ولا يلزم من ذلك أن يقال لكل شيء دبر شيئًا (دبران)، وهذا كثير جدًا يقف عليه من صرف اهتباله إليه.
والوجه الثاني: أنه غير ممتنع أن يكون بعض الملوك- فيما مضى من الزمان- مولعًا بهذا الحب، مؤثرًا له على غيره، فنسب إلى الملوك من أجله، ولزمه هذا الاسم وعرف به، كما قيل في (شقائق النعمان)، فنسبت إلى النعمان بن المنذر [اللخمي]، لأنه رأى منها روضة فأعجبته فجعلها حمى لا يقرب، فعرف به إلى يومنا هذا وقد يسمى الشيء باسم ما لعلة توجب ذلك في بعض الأوقات، ثم ترتفع العلة ويبقى الاسم، كما قالوا في (رمضان): إنه سمي بذلك لشدة الرمضاء فيه، وأن جمادى سمي بذلك لجمود الماء فيه، وأن (المحرم) سمي بذلك لتحريم القتال فيه، ثم ارتفعت الأسباب التي وقعت التسمية من أجلها، وبقيت الأسماء، وهذا كثير، فقد تبين لك بما أوردناه ضعف قول هذا المخالف للجمهور، وأنه اختار ما ليس بمختار ولا مشهور، وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كملت المسألة، والحمد لله رب الحمد والنعم.
مسائل لغوية: حب الملوك – ابن السيد البطليوسي
Tagged in :
fb.com/almokhtaarcom
2.200
صفحتنا على فيس بوك