قراءة في كتاب: ديداكتيك النص الشعري من القراءة إلى الإقراء د. علي آيت أوشان.

الصورة الرمزية لـ المختار almokhtaar.com

بقلم: – المختار السعيدي

يحتل الشعر في الثقافات الإنسانية موقعا مهما باعتباره من أبرز الفنون الإبداعية التي تهذب نفس الفرد وتسمو بالمجتمع، ولا يخفى أن الشعر قد ظل يحتل موقع الريادة في الثقافة العربية إذ هو ديوان العرب سجلوا من خلاله تاريخهم، وعبّروا به عن آمالهم الذاتية والجماعية، ولم يكن الشعر فقط انعكاسا لما يمور به المجتمع العربي من أحداث، وإنما كان يصنع الأحداث ويوجهها كما تحكي ذلك كتب التاريخ والسير.

وانطلاقا من هذه المكانة حظي الشعر باهتمام خاص في التعليم باعتباره أحد الفنون الجميلة التي تسهم في تنمية الكفايات الثقافية والتواصلية والاستراتيجية والمنهجية للمتعلم؛ لذا حرص منهاج اللغة العربية على إيلاء الشعر مكانة هامة وخاصة في المسالك الأدبية في الثانوي التأهيلي.

وليس غريبا أن ينتبه الباحثون والتربويون إلى تدريسية الشعر لما يثيره النص الشعري من إشكالات ترتبط بالنقل الديداكتيكي بشكل خاص، نتيجة اختلاف المتلقي الذي يتوجه إليه الشاعر بنصه الأصلي، وفي هذا الصدد يندرج الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه للمهتمين بالبحث التربوي، ونعني كتاب “ديداكتيك النص الشعري من القراءة إلى الإقراء” للدكتور علي آيت أوشان، أستاذ التعليم العالي بمركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط.

المحور الأول:  عرض الكتاب

يتألف الكتاب من مقدمة وأربعة فصول[1] وخاتمة، فضلا عن ملاحق الدراسة.

تتضمن المقدمة أهداف تدريس  الشعر، وتقسيم النصوص الشعرية إلى صنفين: تعيينية وإيحائية.

إلى جانب تحديد الهدف العام من تأليف الكتاب والمتمثل في “الاستفادة الإجرائية من بعض المفاهيم اللسانية والديداكتيكية في مقاربة النص الشعري، واستثمار نتائجها في إكساب المتعلم مهارة التذوق وتقنيات التحليل والاستدلال والبرهنة ليستطيع الاشتغال بها في وضعيات مختلفة”[2]، يتضح من هذه الفقرة المهمة أن الرهان الذي يسعى إليه الكتاب ينطلق من المعرفة العلمية العالمة عبر الاستفادة من المفاهيم ، كما يبرز الكاتب سبب اختيار النص الشعري وهو “إكسابه قابلية الفهم والتأويل، والانتقال به من مجال القراءة إلى الإقراء”[3].

ويمكن تصنيف بقية [الفصول] في ثلاثة مستويات أساسية:

أولا: المستوى النظري المفاهيمي

يستعرض د. علي آيت أوشن أهم المفاهيم التي تؤطر الدراسة، وهي :

أ – الديداكتيك:  فإذا كان الديداكتيك حسب فيريو (G.Vergnioux)  “ميدانا علميا مستقلا أسند إليه مهمة صياغة المفاهيم والطرائق التي يمكن أن تشكل مقاربة علمية”[4] فإن الباحث يشير إلى ما درج عليه المهتمون من تمييز بين الديداكتيك العام الذي يقصر اهتمامه على ما هو عام ومشترك في تدريس جميع المواد؛ والديداكتيك الخاص الذي يهتم بما يخص تدريس مادة ما من حيث الطرائق والوسائل والأساليب الخاصة بها[5].

2 – المثلث الديداكتيكي: الذي حدد أطراف العلاقة الديداكتيكية متمثلة في المادة(المعرفة) والمدرس والمتعلم، ويمثل هيكلا عاما لوضعية معقدة يسعى الفعل الديداكتيكي إلى تفسير تفاعل أقطابها، وإنشاء معايير فعالة تعقلن نشاط كل من المدرس والمتعلم عبر ثلاثة مراحل: البرمجة والتحضير؛ والتنفيذ؛ والمراقبة والتقديم[6].

3 – العقد الديداكيتكي: وقد نشأ هذا المفهوم في سياقات علمية تهدف إلى عقلنة الحقل التربوي، ويعني مجموع القواعد المنظمة للعلاقات بين مختلف أطراف الوضعية الديداكتيكية، ويتسم بالحركية التي تجعل قواعده قابلة للتطور والتجديد وحتى الاختفاء[7].

4 – النقل الديداكتيكي: وقد برز هذا المفهوم نتيجة الوعي باختلاف المعرفة العالمة التي يتعاطاها المختصون عن المعرفة التي يتفاعل معها المتعلم في إطار الوضعية التعليمية التعلمية، وينقل د.آيت أوشان تمييز شوفلر بين مرحلة المعرفة العلمية، ومرحلة المعرفة الواجب تدريسها، ومرحلة المعرفة المتداولة في القسم، ومرحلة المعرفة التي يكتسبها المتعلم؛ ويقصر النقل الديداكتيكي على الانتقال بين المرحلتين الأوليين. على أن عملية النقل الديداكتيكي يجب أن يستحضر  منطق العناصر المكونة  للمثلث الديداكيتكي: منطق المحتويات، ومنطق التلميذ، ومنطق المدرس[8].

5 – النص: ويميز الباحث في تعريفه بين مستويين: أ – المستوى المعرفي: حيث تعددت تعاريفه نتيجة تعدد واختلاف التوجهات المعرفية، ومن خصائص النص أنه: – مدونة كلامية – حدث – تواصلي – تفاعلي – مغلق  – توالدي، كما يعرض الكاتب لتعاريف النص عند كل من كريستيفا  ورولان بارت.. ب – المستوى البيداغوجي: حيث يدرس هذا المستوى من عدة زوايا؛ مثل اختيار النص حيث تقتضي المعالجة البيداغوجية مراعاة عدة إجراءات تربوية، والوعي بالتحويلات التي يخضع لها النص في الابستمولوجيا المدرسية كالتصرف فيه كميا وتكييفه مع القيم والكفايات المستهدفة، حيث يغدو النص بنية مفتوحة تتفاعل عناصرها الداخلية مع عناصر خارج النص. ومن أهم المسائل التي يثيرها د. علي آيت أوشان في هذا الصدد مسألة تصنيف النصوص، ويعرض لأهم المحاولات في هذا المجال[9]، فمنها ما هو مبني على وظيفة النص وتعتمد على أفعال الكلام، ومنها ما هو مبني على معايير السياق حيث يلزم مراعاة السياق التواصلي للنص، ومنها ما هو مبني على معايير تركيبية تتعلق بموضوع النص وشكل عرض الموضوعات .

6 – الشعر: ويقارن الباحث في التراث العربي بين تعريف النقاد وتعريف الفلاسفة الذين تميزوا بجعل التخييل عنصرا مركزيا[10]، كما يعرض للمفهوم كما عرفه شعريا كل من أحمد شوقي وأمين نخلة[11]، وبعد أن يحدد أهم الأشكال الثلاثة للشعر[العمودي – الشعر الحر – قصيدة النثر] يعرج على مفهوم الشعر عند الغربيين حيث استفاد المفهوم من الدراسات اللسانية والسيميائية ويعرض في هذا الصدد لتعريف ريفاتير الذي حدد الشعر بأنه “التعادل القائم بين كلمة ونص، أو بين نص ونص آخر”، كما يبرز اهتمام جون كوهن بمسألة الانزياح – باعتبارها أهم مكونات النص الشعري –  المتمثلة في خرق قوانين اللغة العادية. ويختم حديثه عن هذا المفهوم باستعراض حضور النص الشعري في المعرفة المدرسية إذ يرى بأن الكتب المدرسية المقررة لا تخصص له حيزا مهما[12]

ثانيا – المستوى النظري  الإشكالي:

1- النص الشعري واستراتيجيات القراءة[13]:

يؤكد د. علي آيت أوشان على ضرورة إلمام مدرس النصوص الشعرية بنظرية الأدب والمناهج النقدية، مع الوعي بكون الفعل الديداكتيكي يتجاوز الانشغال بالمادة المعرفية في حد ذاتها ليطال عناصر أخرى: المدرس، المتعلم، المادة التعليمية، الطرائق، الزمان، المكان، الوظيفة، وذلك من أجل عقلنة النقل الديداكتيكي، بحيث تغدو الوضعيات التعليمية نشاطا يقوم فيه المدرس بتسهيل التفاعل بين كفايات المتعلم وإنجازاته، وبهذا يتم استحضار استراتيجيات المتعلم لأن عملية الإقراء لا تتم بشكل عمودي بين مبدع ومتعلم، وإنما تدخلها عناصر أخرى – مثل المدرس –  باعتبارها وسيطا بين النص والمتعلم، والكتاب المدرسي، ومختلف القراءات التي يقوم بها المتعلم؛ ورغم أهمية هذه العناصر وضرورتها في إقراء النص، فإنها تحد من إمكانات التواصل مع النصوص الإبداعية. وبهذا لم تعد المادة الدراسية وحدها المصدر الأساسي لبناء الاستراتيجيات والمعارف الديداكتيكية، وإنما اتسع المجال ليشمل أبعادا أخرى تلخصها الأسئلة الآتية:

ماذا يقول النص؟ من يقوله؟ كيف؟ لمن يقول؟ متى؟ أين؟ لم؟

ويميز  د. علي آيت أوشان في تفاعل المتلقي مع النص المقروء عن طريق استراتيجيات القراءة بين ثلاثة نماذج تتفق في اعتبار الفعل القرائي يجمع بين معطيات ذاتية وموضوعية رغم اختلاف منطلقاتها:

–      النموذج التصاعدي: يعتبر القراءة عملية خطية تنطلق من النص إلى ذهن القارئ، حيث إن القارئ يستخرج المعنى الموجود في النص.

–      النموذج التنازلي: يتميز بتفسير مسلسل الاستيعاب القرائي من خلال المعرفة القبلية التي يوظفها القارئ في هذه العملية.

–      النموذج التفاعلي: وخير ما يمثل هذا النموذج نظرية التصميم، إذ إن النص الذي يعطي الإشارة وينشط المعارف؛ والقارئ الذي يوفر التصاميم أو المعارف؛ يعتبران طرفين متكافئين متفاعلين في الفهم وتوليد المعاني وتأويل النص.

2- النص الشعري وبنية التلقي[14]:

إن تيار سيكولوجية المعرفة والنظريات التي تركز على دور القارئ في عملية القراءة مما كان له الأثر على تجديد النظرة إلى فعل التعلم  الذي أضحى نشاطا استراتيجيا للوصل بين القديم والجديد، وممارسة تسهل هذه العملية، وفي الوقت نفسه وسيلة لتعديل معارف المتعلم وقيمه وسلوكه؛ ويتم ذلك الوصل من خلال تفاعل البنيات النصية بالموسوعة المعرفية؛ حيث تتشكل هذه العملية عبر مراحل متداخلة تجعل التعلم تحريكا جدليا لآليتي التلقي والإنتاج؛ ويحدد د. علي آيت أوشان تلك المراحل في ما يلي:

أ – استحضار المكتسبات: إذ إن المكتسب الجديد لا يكون قابلا للتعلم إلا إذا اتصل بالمعارف والمكتسبات السابقة؛ وفي هذا الصدد يميز الباحث بين مستويين من المكتسبات يرتبطان بشكل جدلي: مستوى الكفاية مما يظهر في شكل معارف ومعلومات وتمثلات ذهنية؛ ومستوى الإنجاز وتتحقق فيه المكتسبات في مهارات وخبرات عملية.

ب – تعيين المكتسبات: يظهر بشكل متدرج وضمني أثناء فعل التعلم بتحديد مدى ملاءمة المعارف المكتسبة لموضوع التعلم.

ج – استثمار المكتسبات: يتجلى في تحول المكتسب الجديد إلى وسيلة للاكتساب، وامتلاك معارف ومهارات أخرى، إذ تصبح المعرفة وسيلة منظمة لمعارف المتعلم وأداة لاكتساب معارف جديدة، لا مجرد معلومات قابلة للتخزين فقط.

ومن المهم ربط هذه العملية بطريقة التدريس حيث يقابل تلك المراحل السالفة الخطوات التدريسية الآتية:

أ – التأطير: من خلال استدعاء المتعلم المعارف المكتسبة في القراءات السابقة لاكتساب معرفة جديدة.

 ب – المعالجة: وتتحقق عبر مستويين تنازلي ينطلق من النص باعتباره كلا، وتصاعدي ينطلق من الجزء.

ج – الاستثمار: حيث يصبح المكتسب وسيلة للتطبيق قصد الحصول على مكتسبات جديدة.

3-  النص الشعري والقراءة المنهجية[15]

بعد أن عرض المؤلف سياق ظهور القراءة المنهجية ومراهنة منهاج اللغة العربية عليها، يبين مفهومها كما ورد في الوثائق الرسمية التي تعتبر القراءة المنهجية مجموعة من العمليات والخطوات والمراحل والأنشطة التي تنتهج من أجل فهم النصوص وتحليلها.. فهي تتأسس على المرتكزات الآتية:

–      التفاعل – المقاربة الكلية – دينامية التعلم

فالقراءة المنهجية  تعني “قراءة النصوص بطريقة واعية وفق مراحل متدرجة يقوم فيها المتعلم بأنشطة تعلمية بتوجيه من مدرسه الذي يتخذ وضع المرشد والموجه، ومسهل التعلم، بحيث يوجه متعلميه في المرحلة الأولى إلى ملاحظة النص، واقتراح فرضيات عنه، ليتم العمل في بقية المراحل (الفهم والتحليل والتركيب والتقويم) من أجل التحقق من تلك الفرضيات”؛ وهذا يجعل المؤلف يربط دلالة مفهوم القراءة المنهجية بمشروع الكتاب، حيث إنها حسب هذا التصور “مشروع قرائي إقرائي يكون فيه المتعلم مركز العمليات، ويكون فيه المدرس منشطا..”.

4 – نظام النص الشعري[16]:

ينطلق المؤلف من فرضية أن الشعر نظام تواصلي تتحكم فيه نوايا الشاعر ومواقفه التواصلية، ليتبنى نظرية تحليل الخطاب الشعري؛ ومن ثمة دارسته اعتمادا على أربعة عناصر تجعل التعامل مع سؤال الابستمولوجية المدرسية وفق شبكة من العلاقات المتفاعلة نصا وتناصا ومقصدية:

أ – الأصوات: الصوت في الشعر ذو محتوى إيقاعي، لا سيما وأن مكون الوزن يحدد مسبقا التراكم الصوتي.

ب – المعجم: يعرض المؤلف لبعض الانتقادات الموجهة لتقنية تصنيف الكلمات وفق الحقول الدلالية باعتبار الإشكال الذي يثيره عزل الكلمات عن السياق، بيد أن هذه الطريقة لا تخلو من فائدة خاصة وأن تردد بعض الكلمات تمكننا من رصد محاور النص وتضمن انسجامه الداخلي ومع النصوص المنتمية إلى الجنس نفسه.

ج – التركيب: – النحوي: فالتراكيب النحوية في القصيدة الشعرية تمثل جزءا من معنى القصيدة وجماليتها، ويبرز المؤلف بعض المقولات الإجرائية التي تلقي الضوء على بعض الظواهر التركيبية: الأقرب أول، التقريب اهتمام، الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، التقديم، بنية التعدي.

               – البلاغي: إذ تعتبر الثوابت المقطعية داخل النص الشعري معينا لشبكة التصوير داخله، وفي هذا الصدد يورد المؤلف رأي إدريس بلمليح الذي يلح على دراسة الظاهرة البلاغية ضمن سياقها، كما يؤكد ذلك لوتمان حين حديثه عن الطبيعة العلائقية للعناصر البلاغية داخل القصيدة.

د – المقصدية: وترتبط بالجانب التداولي للغة، حيث إن المقصدية تكمن في كل جملة لغوية، بيد أن الحديث عن المقصدية إن صح في بعض أنواع الخطاب الواضحة، فإن أنواعا خطابية أخرى لا تخضع لقانون المقصدية، لذا يحضر مفهوم آخر يتممها، وهو مفهوم التفاعل أي علاقة المرسل بمتلقيه الذي قد يكون فردا أو جماعة موجودا بالفعل أو بالقوة؛ إلى جانب ذلك هناك آليات أخرى تتحكم في اشتغال الخطاب يذكر الكاتب منها: التملك، التوليد-التحويل، الزمان، الفضاء، الانسجام.

ثالثا: المستوى التطبيقي قراءة في قصيدة “في الليل” لبدر شاكر السياب[17]

يحدد المؤلف ثلاث مراحل بيداغوجية كبرى في هذا المستوى:

أ – تشخيص المكتسبات:

ويمكن تكييف هذه المرحلة مع بنية الدرس إذ تنسجم ومدخل الدرس الذي يعد منطلقا وتمهيدا للأنشطة، ومجالا لتحفيز المتعلمين وتشخيص مكتسباتهم وتعلماتهم السابقة؛ وفي هذا الصدد يحصر المؤلف ذلك التشخيص في أسئلة محددة:

ü   ما هو الاتجاه الشعري الذي ينتمي إليه النص؟

ü   اذكر بعض الأسباب التي أدت إلى ظهوره؟

ü   حدد بعض خصائصه الأساسية؟

ü   اذكر أسماء بعض رواده؟

 ب – المكتسبات:

 وتنسجم هذه المرحلة مع صلب الدرس الذي يعد محور العملية التعليمية – التعلمية، وقد حدد المؤلف خطواتها الإجرائية كما يلي:

أولا: ملاحظة النص:

  العنوان: ويقترح مقاربته عبر سيرورتين: الأولى من القاعدة إلى القمة، حيث المسعى فهم معاني الكلمات المشكلة للعنوان [في الليل] معجميا وتركيبيا؛ والثانية من القمة إلى القاعدة، تهدف إلى إدراك أن العنوان استمد من النسيج اللغوي للقصيدة.

ثانيا : الفهم

ويتم من خلال تحديد مقاطع القصيدة ثم خطاطتها المؤلفة من ثلاثة عناصر: رأس القصيدة/العنوان؛ وبؤرة القصيدة أو قلبها ويتحدد في المقطع الثاني ولا سيما الأسطر 22 و23و26؛ وخاتمة القصيدة المحددة في السطرين الأخيرين.

ثالثا: المتكلم أو الذات المنتجة للخطاب

حيث يحضر ضمير المتكلم بقوة في مقاطع القصيدة الثلاثة، غير أن ثمة حضورا آخر لضميري المخاطب والغائب؛ وقد يتحول المخاطب إلى متكلم والمتكلم إلى مخاطب، مما يعني أن الذات المنتجة للخطاب تنشطر نتيجة المرض إلى ذاتين: الأولى تعيش لحظة الاحتضار، والثانية ترغب في الموت لأنه نهاية لمعاناتها.

رابعا: الموضوعات

إن تأمل الزمن النصي (الليل) والفضاء النصي (الغرفة – المقبرة) ولغة النص الحبلى بألفاظ الصمت والموت والمقبرة، وإدراج ذلك ضن سياق ديوان “شناشيل ابنة الجلبي” يفضي إلى استخلاص أن النص يقوم على ثنائية صراع الموت والحياة، إذ إن الموت يصبح الحل والخلاص لمعاناة الذات.

خامسا: الزمن النصي

يميز المؤلف بين زمن الكتابة 27 فبراير 1963، أي المرحلة الأخيرة من حياة الشاعر التي عانى فيها من شدة المرض؛ والزمن التخيلي المتشكل من لحظتين أساسيتين: الحاضر الذي يحيل على الاحتضار، والمستقبل الذي يعكس تحولا في رؤية الشاعر من حالة الاحتضار إلى الوضع النهائي: الموت. ورغم ما قد يبدو من اختلاف ظاهري بين الزمنين: الواقعي والتخيلي فإنهما يمثلان في العمق رؤية الشاعر التي تجعل الزمن متصلا.

سادسا: الفضاء

يدرس المؤلف فضاء النص انطلاقا من التمييز بين الفضاء المكتوب المتضمن طول وقصر الأسطر الشعرية، والبياض والسواد، وعلامات الترقيم، والفضاء التخيلي، إذ إن الفضاء النصي في القصيدة يتشكل من عنصرين أساسيين هما الغرفة والمقبرة، حيث إن الغرفة تمثل حالة نفسية معذبة نتيجة المرض، والمقبرة تمثل الانتقال من ضيق الدنيا[الغرفة] إلى رحابة الموت، لا سيما وأن هذا الفضاء يعكس علاقة نفسية عميقة تؤكدها باقي نصوص السياب.

سابعا: مكونات النص الشعري

ويدرسها المؤلف من ثلاث زوايا: أولها البنية الصوتية وقد حللها من خلال التراكم الكمي لأصوات الميم والتاء والواو التي تشكل كلمة الموت؛ ثم الإيقاع، إذ يرى المؤلف أن الشاعر يتخلى عن البحر الشعري، ويحتفظ بالتفعيلة وحدة أساسية لإيقاع النص، مما أفضى إلى تفاوت الأسطر الشعرية تبعا للحالة النفسية التي يعيشها الشاعر؛ ثم القافية التي تتسم بالتنوع رغم هيمنة بعض الأصوات عليها. وثانيها المعجم إذ درسه من خلال المعجم النصي المقسم إلى ألفاظ دالة على المكان وأخرى على الزمان وثالثة على الموت؛ كما درسه أيضا من خلال  التكرار والاشتقاق. وثالثها التركيب الذي درسه من الزاويتين:

 النحوية عبر الروابط النحوية في القصيدة وكذا الروابط الحجاجية والجمل الفعلية والاسمية، فضلا عن الجمل باعتبارها أفعالا كلامية، وأخيرا التعريف، كل هذه الروابط تخدم جو القصيدة الذي يغلب عليه التوتر نتيجة معاناة الشاعر.

والبلاغية، إذ تحضر اللغة الاستعارية في النص[تنصت الطريق وترصده للشاعر] نتيجة تفاعل السياب بالأشياء والوقائع من حوله، إذ إن التصور الذي ينطلق منه الشاعر نابع من إحساسه بأن الموت يطارده.

ثامنا: التلقي

يرى المؤلف بأن الذخيرة المشتركة بين الشاعر والمتلقي تضمن التفاعل القائم بينهما، مما يسعفنا في تعميق عملية الفهم والتأويل التي يحددها في مستويين: الدهشة الجمالية، ثم التأويل الاستعادي.

ج – استثمار المكتسبات:

ويقترح المؤلف استثمار مكتسبات المتعلم في وضعيات مغايرة تجعله قادرا على الإنجاز، وذلك عبر: المحاكاة، الإبداع، التطبيق، الأبحاث، تفعيل أنشطة الأندية، ورشات الكتابة..

وبعد هذا نجد ملاحق الدراسة[18] التي تتضمن نص السياب “في الليل”؛ والمراحل الديداكتيكية لبناء الدرس؛ والبطاقة التقنية للدرس؛ وجذاذة تتضمن مراحل قراءة النص الشعري؛ ثم شبكة واصفة لاستراتيجيات تدريس النص الشعري (من التلقي إلى الإنتاج).

وفي الخاتمة يستعرض د. علي آيت أوشان أهم النتائج المتوصل إليها مثل ضرورة تجاوز الممارسات النمطية في عملية القراءة والقائمة على الخطية والتكرار؛ والعمل على جعل فعل القراءة فعلا ديناميا؛ واعتبار النص وسيلة لإغناء الرصيد اللغوي والمعرفي للمتعلمين؛ والاستفادة من الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة؛ ومد الجسور بين القراءة والكتابة…

المحور الثاني: قراءة في الكتاب

رغم أن الصفحات التي تضمنتها الدراسة كانت في 100 صفحة تقريبا من الحجم المتوسط، إلا أن الكتاب يتضمن فائدة كبيرة للمهتمين بديداكتيك اللغة العربية بشكل عام وديداكتيك النص الشعري بشكل خاص، لاسيما وأن المهتمين يشتكون من قلة الأبحاث في هذا المجال؛ ومما يزيد من أهمية الكتاب وضوح الرؤيا وانسجام الأفكار واتساق الأساليب.

يتجلى وضوح الرؤيا منذ المقدمة حيث يصرح المؤلف بالهدف العام والأهداف المتفرعة عنه بشكل واضح لا مواربة فيه، كما يتجلى ذلك الوضوح في البناء المنهجي المحكم من حيث الانطلاق من تحديد المفاهيم، ثم بيان أهم الإشكالات المرتبطة بتدريس النص الشعري، لينتقل بعد ذلك إلى الجانب التطبيقي مع الحرص على إرفاق الكتاب بملاحق تساعد الباحثين في ديداكتيك النص الشعري.

وقد انعكس وضوح الرؤيا بشكل إيجابي على طريقة تقديم الأفكار وشرحها إذ نجد خطاطات وجداول توضيحية أسهمت في إبراز الفكرة، وظيفتها بسط الأفكار وتقديمها بشكل أكثر تفصيلا باعتبار تلك الخطاطات والجداول لغة ثانية مهمتها التفصيل والتنظيم، ويمكن أن نمثل لهذا النوع من الخطاطات بما ورد في ص 14، إذ ينطلق المؤلف من السؤال الآتي في إطار حديثه عن العقد الديداكتيكي:

“كيف يصل مجموع العلاقات داخل الوضعية الديداكتيكية إلى إعطاء مردوديته القصوى”[19]

ويجعل هذا السؤال بمثابة القلب النابض للخطاطة، تتفرع عنه أسهم في اتجاه المربعات الست المحيطة بمربع السؤال:

الأعلى يتضن مربعان: المربع الأول على اليمين يتضمن السؤال: لمن؟ وأسفله ثلاثة أسئلة تجليه.

  يقابله المربع الثاني على اليسار يتضمن السؤال: من؟ وأسفله ثلاثة أسئلة توضحه.

وفي الوسط بمحاذاة السؤال البؤرة نجد مربعين: الأول على اليمين يتضمن السؤال: لماذا؟ وأسفله سؤال من 13 كلمة يوضحه؛ والثاني يقابله في اليسار يتضمن السؤال: لماذا هذه العلاقة الديداكتيكية؟ وأسفله سؤال من 10 كلمات يوضحه.

ثم يتجه السهمان إلى أسفل المربع البؤرة لنجد على اليمين سؤال: كيف؟ أسفله سؤال موضح؛ وعلى اليسار سؤال: ما هو موضوع الوضعية الديداكتيكية؟ أسفله سؤال يجليه.

إن وظيفة هذه الخطاطة هي تكثيف علاقات متشعبة وتوضيحها بطريقة بيداغوجية تكشف العلاقات بينها وتبرز تفاعل عناصرها، ومن ثمة تحتفظ الذاكرة بهذا الرسم، بحيث يشتغل الجانب البصري من خلال حفظ مواقع المربعات، فضلا عن اختصار الأسئلة التي تختزل عبارات وجمل، فيسهل من ثمة تذكرها بخلاف تقديم الكلام بشكل خطي في صفحات متوالية.

وفي المقابل نجد بعض الخطاطات تختصر ما سبق شرحه بتفصيل، على غرار ما نجده في الصفحة 22 إذ نجد خطاطة من مستطيل يتضمن مركبا وصفيا: المعايير النصية، يرتبط بسبع مربعات أسفله: كل مربع يتضمن كلمة تحدد معيارا، مما يختصر صفحة ونصفا، تقدم شرحا لتلك المعايير.

وعموما نجد في الكتاب ست عشرة خطاطة توضيحية، وسبعة جداول، تكون وظيفتها إما البسط والإيضاح مع التكثيف والإيجاز؛ أو اختصار ما سبق شرحه والتفصيل فيه.

ويتحقق انسجام أفكار النص واتساقه  من خلال اعتماد مجموعة من الروابط الحجاجية المنطقية واللغوية؛ نشير إلى بعضها؛ من ذلك اعتماد المؤلف المسار الاستنباطي بشكل خاص مثل ما نجده في قوله:”سنحاول دراسة الخطاب الشعري اعتمادا على ما يلي: 1 – الأصوات. 2 – المعجم. [3]– التركيب (النحوي والبلاغي). [4]– المقصدية)[20]، وبعد صفحة يفصل في تلك العناصر في حوالي ثمان صفحات[21]. ومما لا شك فيه أن المسار الاستنباطي له دور بارز في توضيح الفكرة من خلال عرضها بشكل مجمل قبل التفصيل في عناصرها الجزئية.

إلى جانب ما سبق نجد المؤلف يعتمد في توضيح رؤيته على تفسير الفكرة وشرحها بعد تقديمها بشكل مجمل، والتعريف، والاستنتاج، والتعليل.

كما يعتمد المؤلف على تمحيص الفكرة ونقدها وعدم إيراد الاستشهادات دون توضيح أو تعليق؛ والحديث عن الاستشهادات يحيلنا إلى الحديث عن عنصر مهم، نبحث من خلاله الخلفية التي شكلت رؤية الكتاب من خلال تتبع الإحالات، وهو تتبع سنتبع فيه  المسار الذي حددناه في الأول من خلال تقسيم الكتاب إلى ثلاث محطات كبرى: المفاهيم، والإشكالات، والتطبيق.

ففي المفاهيم نجد عشرين إحالة يقابلها حوالي 18 علَما مما يعني تعدد المصادر التي من خلالها تتشكل البنية المفاهيمية، وهذا راجع إلى طبيعة البناء المفهومي الذي يقتضي الغوص في مصادر المعرفة المتعددة من أجل البحث في جذور المفهوم ودلالته.

وفي المقابل نجد في محور الإشكالات 29 إحالة لاثني عشر علما؛ يأتي في مقدمتهم محمد مفتاح بعشر إحالات [%34.48]، ثم ميلود حبيبي بخمس إحالات [% 17.24] ثم، إدريس بلمليح بثلاث إحالات[% 10.34].

وفي الدراسة التطبيقية ننجد 30 إحالة لـ15 علما في مقدمتهم محمد مفتاح بثمان إحالات [% ­­­26.66] يليه إدريس بلمليح بست إحالات [% 20].

وتوضح هذه الإحصاءات أن د. علي آيت أوشان يبني رؤيته في ديداكتيك النص الشعري بالتقاطع مع علمين من أعلام النقد الحديث في العالم العربي هما محمد مفتاح وإدريس بلمليح؛ غير أن السؤال الذي يثار في هذا الصدد هو الجانب المتعلق بالبعد  الديداكتيكي الذي قد يغيب في دراسات المختصين المنظرين للمعرفة العالممة، وقد عمل د. علي آيت أوشان على مراعاة الجانب الديداكتيكي، إلا أنه ثمة بعض الملاحظات التي نختم بها هذه القراءة والتي تنبني على رؤية تفاعلية مع بعض الأفكار التي وردت في الكتاب.

ومن أهم ما عنّ لي في هذا المجال هو غياب مفهومي القراءة والإقراء ضمن البنية المفاهيمية في المحور الأول رغم مركزية هذين المفهومين  باعتبارهما يشكلان العنوان الفرعي، ورغم أننا نجد إشارات داخل المتن من مثل قول الكاتب: “إن الفعل الديداكتيكي في هذا السياق يتجاوز الانشغال بالمادة المعرفية في حد ذاتها [القراءة] ليطال عناصر أخرى: المدرس (المرسل)، المتعلم (المتلقي)، المرجع (المادة التعليمية)، الطرائق – الزمان – المكان – الوظيفة [الإقراء]”[22] ؛ إلا أنه في نظري يستحسن تحديد هذين المفهومين للمتلقي لا سيما وأننا نجد المحور التطبيقي يعنون بالقراءة بدل الإقراء.

أما الجانب الثاني فيتعلق بغياب الإشارة إلى المتعلم المستهدف من المحور التطبيقي إذ لا يدرك قارئ الكتاب هل القراءة معني بها تلاميذ السلك الإعدادي أم التأهيلي، إذ يلزم توضيح نقطة مهمة تتلخص في معرفة المقصود حين نثير مثل هذا السؤال: لمن كتب النص؟ أيقصد به المتلقي الحاضر في ذهن المبدع لحظة الإبداع؛ أم يقصد به المتعلم حين ننقل النص إلى فضاء الفصل، وهو بدون شك يختلف عن المتلقي الأول؟

بقيت نقطة أخيرة أشير إليها باقتضاب، حيث ورد في الكتاب: “أما بخصوص النص الشعري في المعرفة المدرسية، فالملاحظ أن الكتب المدرسية المقررة لا تخصص له حيزا مهما…”[23]، إذ لا بد من تفصيل حضور النص الشعري حيث يلاحظ اختلاف حضور النص الشعري حسب الأسلاك والشعب، إذ نجده يغطي دورة كاملة في السلك التأهيلي في الشعب الأدبية؛ وفي رأيي أن التقريرية في النص الشعري في السلك الابتدائي مطلوبة دون إسراف، بالنظر إلى طبيعة المرحلة العمرية المتوجه إليها.

وفي الختام يجدر التأكيد على أهمية كتاب “ديداكتيك النص الشعري من القراءة إلى الإقراء” واعتباره إضافة مهمة إلى الخزانة الديداكتيكية التي ما تزال في جاجة إلى أبحاث ودراسات تنزل من سماء التجريد إلى أرض التطبيق.


[1] – تسمية الفصول من اقتراحنا.

[2] – ديداكتيك النص الشعري ص 6

[3]  – نفسه ص 7.

[4] – ديداكتيك النص الشعري ص 9.

[5] – نفسه ص 10

[6] – نفسه ص 11.

[7] – نفسه ص 12 – 13.

[8] – نفسه ص 14 – 16.

[9] – نفسه ص 24 – 25.

[10]  – نفسه ص 26 – 27.

[11]  – نفسه ص 27.

[12] – نفسه ص 29.

[13] – نفسه ص 33 – 39.

[14] – نفسه ص 41-44.

[15] – نفسه ص 45-49.

[16]  – نفسصه ص 53-64.

[17]  – نفسه ص 67 -101.

[18]  – نفسه ص 105 – 111.

[19] – ديداكتيك النص الشعري ص 13.

[20] – ديداكتيك النص الشعري ص 54، وما بين معقوفين تصرف مني لما يبدو أنه خطأ مطبعي حيث وردت 5 عوض 3، ثم د عوض 4.

[21] – نفسه من ص 56 إلى ص 64.

[22]  – ديداكتيك النص الشعري ص 34.

[23] – نفسه ص 29.

الصورة الرمزية لـ المختار almokhtaar.com

fb.com/almokhtaarcom

2.200

صفحتنا على فيس بوك