تحت عنوان “عُكاظ غزة”، وشعار “شعراءُ المغرب على العهد الأبديِّ لفلسطين”، وبمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يحل بتاريخ 29 نونبر من كل عام، صدحت أصوات ستة عشر شاعرا مغربيا من مختلف ربوع البلاد لغزةَ في مدينة وجدة عشية السبت 30 نونبر، بمقر جمعية النبراس للثقافة والتنمية المشهود لها بحمل مشعل القضية الفلسطينية في مختلف التظاهرات الثقافية والفنية منذ أزيد من أربعة عقود.
وفي جو شعري جميل استطاع الشعراء المشاركون أَسْرَ انتباه الحضور بما أُوتُوا من قدرة فنية متفردة على صياغة المعاني السامية في قوالب فنية مُحْكمة البناء، وذلك من خلال التعبير عن مختلف المشاعر الجياشة التي يُكنها المغاربة لفلسطين عامة، ولغزة بعد طوفان الأقصى خاصة، مع تسجيل ملاحظة مشتركة لدى الشعراء كافة تتمثل في تجنُّب الحزن وذرف الدموع على غزة – على غير العادة – رغم كل الدمار الوحشي الذي تعرضت له بعد السابع من أكتوبر 2023 على أيدي العصابات الصهيونية، في إشارة بليغة إلى تطوُّر وعي التعاطي مع القضية الفلسطينية بعد حالة الاعتزاز والاعتداد التي خلقتها عمليات المقاومة الطلائعية على أرض الميدان، واصطبار أهالي غزة الأسطوري على أرضهم وعِرضهم ضد العدوان لأكثر من عام من التقتيل والتدمير المستمرين في كل دقيقة وثانية! وبالمقابل تنوعت الزوايا التي نظر من خلالها الشعراء المشاركون في هذا الملتقى الشعري الحاشد بين التنويه والإعجاب والافتخار بالمقاومة وإنجازاتها، والاعتزاز القوي برجالاتها ورموزها الذين أصبحوا رموز إباء عالمي ضد الظلم وطغيان الاحتلال، واستحضار تجارب إنسانية أخرى شبيهة بمأساة الإبادة بغزة، لا سيما تجربتا الأندلس وما نال الأفارقة السود من ترحيل قسري وتعبيد على يد الإنسان الأبيض، مع كثير من الهجاء للخيانة والخائنين، والرفض للتطبيع والمطبعين.
وهكذا نوه الشاعر محمد شنوف (من مكناس) في قصيدته “يا غزة الأحرار” بالصبر الأيوبي لغزة – بسبب إيمانها الراسخ – في وجه الوحشية غير المسبوقة:
تُغضِي الجُفونَ عن الأذَى احتسبَـتْ * لله بالإيمانِ تَحتمِـــــــــــــــــــلُ
وتغنى الشاعر سعيد الكرواني (من تازة) برجالات المقاومة ورموزها الذين صنعوا (ملحمة بها نُقشتْ سُطور في شكل صواريخ أذلَّتْ فُلول العدو) لأول مرة إذلالا مرا. واختار الشاعر رضوان السكنداوش (من طنجة) أن يهدي مقطوعاته الشعرية القصيرة إلى شخصيات غزِّية أصبحت رموزا وأياقين لن يمحوها الزمن، ومنها الشهيد يحيى السنوار الذي يرفض الشاعر البكاء عليه أو تأبينه، لأن التأبين للموتى لا للأحياء الخالدين في الضمائر:
مَن أَسْكَن المَجدَ في عيْنَيْهِ مُرتحِـلا * وقَلبُه الضوْءُ لا يَجزيهِ تأبيـنُ
أما الشاعر جمال أزراغيد (من الناظور) فرغم أنه توقفَ مليا مع “ما يُدْمي العينَ فوق قِشرة الأرض: امرأةٌ تُرمَّلُ تَحت حبل الغسيل، طِفلٌ يُيَتَّمُ فوق خيط الخراب، شيخٌ يُقتَّل عند أقدام الأسير”، فإن قصيدته “غزة الأمجاد” لا تَعتبر ذلك إلا ثمنا للمَجد الذي لا بد منه للأحرار. وأما الشاعر المختار السعيدي (من فاس) الذي اعترف بأن ما يقع في غزة من وحشية منقطعة النظير قد كان سببا في جفاف قريحته الشعرية، فقد فضَّل أن يقف زمنُه عند لحظة انهمار “طوفان الأقصى” الهادر منذ أزيد من عام، وهكذا بنى قصيدته “الطوفان” بناء هندسيا رباعي الفقرات مستلهما طوفان نوح (عليه السلام): “الغار” فـ”الفُلك” فـ”الطوفان” فـ”الجُودي”. وعلى خطى فكرة الفخر والاعتزاز نفسها سارت الشاعرة سهام النكادي (من بركان) مفتتحة قصيدتها بقولها:
سِرْ يا زمانُ على المَدى مُختـالَا * وارفَعْ لِتشْرِينَ التحيَّةَ حــــــــالَا
من جهة أخرى فضل الشاعر سعيد بنعياد (من تطوان) أن تكون قصيدته رسالة غاضبة فاضحة إلى كل من خانَ العهد بالتطبيع، وخذلَ غزة بالخذلان، فتواطأ بذلك مع العدو:
أدخَلْتَه بَلَدِي، أطعمتَه جَسَـدِي * سلَّمتَهُ ولَدِي مِن غيرِ ما خَجَـلِ!
أما الشاعر مراد المعلاوي (من زايو) فوقف في قصيدته “أعَصرتِ القهرَ عِزا؟” عند دفق الحماسة والكرامة اللذين أفاضتهما المقاومة على الإنسان العربي المسلم الذي كان في الأذلِّين نِسيا منسيا:
ملاحمُ غزَّةٍ أحْيَتْ حماسَـا * بمَنْ نَسِيَ الكرامةَ أو تناسَـى
وإذا كان الشاعر بلال الدواس (من طنجة) قد استوحى مشاركتَه المعنونة بِـ”مِن شُرفة فَرْديوَة” (وفرديوة قرية شاطئية شمال البلاد تطل على الأندلس) مأساةَ مسلمي الأندلس الذين هُجِّروا من بلادهم في حملة فرنندو وإيزابيلا ومحاكم التفتيش في القرنين 15 و16م، للتعبير عن مأساة غزة الحالية، لكنْ مع نبرة تفاؤل تتمثل في لازمة الختام “يَرجع ما قد راحْ… يَرجع ما قد راحْ”، فإن الشاعر كريم الشياحني (من مكناس) قد استلهم – بالمقابل – مأساة كناوة، صوت الأفارقة المستعبَدين من لدن صانعي مأساة الأندلس أنفسِهم، للتعبير عن محنة الإنسان مع الطغيان حيثما كان، لأن (الصرخة واحدة). أما الشاعر بوعلام دخيسي (من وجدة) فأجاب في نصه “سؤال أخير” عن جواب السؤال المُلحّ المتردد دوما “متى النصر؟” بأن الأمر يحتاج إلى وقت ورجال:
لا يُزعِجنكَ طولُ المَـدَى
وانتبِهْ للدروس الطِّـوالْ
… فَاسْقِ جُذوريَ تَجْنِ الرجـالْ
من ناحية أخرى نوَّه الشاعر محمد بولعيش (من طنجة) برجولة الأطفال الفلسطينيين التي حفظت ماء وجوهنا:
صاروا الرجولةَ إذْ ماتتْ بأُمَّتِنـا * صانُوا لها عَلَمًا، لن يسقطَ العَلَـمُ
أما الشاعر ياسين بُعبسلام (من الناظور) فكانت قصيدته المعنونة بـ”حَدَّ تَنقطعُ التَّراقي”، والتي مطلعها:
لكُمْ سَخَطٌ، لنا مِليونُ سُخـطِ * وكَفٌّ حِينَ تُرْفَعُ لَيْسَ تُخْـطِي
ذاتَ قفلة لافتة بسبب التصوير البديع الذي يمثل ارتباط الأمة بفلسطين إلى آخر نفس ممثَّلا هنا بقطع الأعناق على آخر كلمة، وهي كلمةُ “فلسطين” نفسها:
ونَهتِفُ حَدَّ تَنقطعُ التراقِـي * فِلسطينٌ… فِلسطينٌ… فِلسْطِـي
وهو الارتباط الأبدي الذي أكده الشاعر محمد النابت (من زايو) حين قال:
تُواري الأرضُ موتاهَـا فيَنبُتُ بَعدَهُمْ شَجَـرُ
لِأَهلِ الأرضِ تَبقَى الأرضُ إن غابُوا وإن حَضَـرُوا
وإذا كان الشاعر عماد العروسي (من طنجة) شاعرا غزِلا، فإنه في هذا المقام، مقام عكاظ غزة يقول:
عنْ أيِّ حُبٍّ يا حبيبةُ أكتُـبُ؟ * إنِّي إلى وجَعِ العُروبةِ أُنْسَـبُ
قَلبي كغزَّةَ قد تَهدَّمَ رُكنُـهُ والفَرْحُ من عينِي البريئةِ يُسلَـبُ
وختمَ الشاعر سعيد عبيد (من وجدة) الملتقَى بقصيدته “لا يُخْلِف الماءُ عهدَ زُرقتِه” التي مطلعها:
من أنت يا جبَلًا يَعلُو بهِ جَبَـلُ؟! * الكَونُ رغمَ مشيبِ الرأس مُنذهِـلُ!
مُشيدا ببطولة غزة التاريخية، وبوفاء المغاربة الأحرار للقضية الفلسطينية أبد الدهر رغم كل آلام التطبيع والخيانة والخذلان.
يُشار إلى أن الشاعر حسن الأمراني قد افتتح الملتقى بكلمة قوية هي في الحقيقة عبارة عن قراءة في مُلصق التظاهرة وما تضمنه من دلالات تاريخية ولغوية وفنية عميقة، وإلى أن الحفل تخللته فقرات فنية موسيقية من توقيع الفنانين يوسف غزالي وحسن السعيدي، وأنه تم تنشيطه بكفاءة وإثراء من لدن الشاعرين محمد بنزيان (من طنجة) والبتول محجوبي (من وجدة).
عكاظ غزة: الملتقى الوطني لشعراء المغرب بوجدة نصرة لغزة
Tagged in :
fb.com/almokhtaarcom
2.200
صفحتنا على فيس بوك
اترك تعليقاً