بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على محمد النبي الكريم وآله وسلم
جواب الفقيه الأستاذ أبي محمد بن السيد البطليوسي- رحمه الله- على سؤال من سأل عن الفرق بين النعت وعطف البيان والبدل// وتمييز كل واحد منهم من صاحبه بخواصه اللازمة له، ولِمَ لمْ يجز في النعت أن توصف النكرة بالمعرفة ولا المعرفة بالنكرة، وجاز ذلك في البدل؟ وهل هو جائز في عطف البيان أم لا؟ ولِمَ لمْ يجز أيضًا وصف المضمر وجاز البدل منه؟ وهل يجوز أن يُعطف على المضمر عطف بيان أم لا؟ ولِمَ لمْ يجز في المعارف أن توصف المعرفة بما هو أخص منها وأكثر تعريفًا، وجاز ذلك في نعت النكرة، نحو: مررت برجل كاتب [بين لنا- يرحمك الله- وجه الحقيقة فما سألتك عنه تبيين من بلغ في العلم مبلغك، يُعظم الله أجرك، ويُجْزِل عليه ذخرك، فأجاب: وقفت على سؤالك- وفقنا الله وإياك لما يُرضيه، وجعلنا ممن يتحرى الصواب فيما يقوله ويأتيه. وقد أجبتك على كل فصل بما رأيت أنه يوافق مرادك ويطابق اعتقادك. وستقف من جوابي هذا على أشياء لا تجدها في كتب أصحاب هذه الصناعة، وإن كنت إنما سلكت على منهجهم، واهتديت بأمثلتهم، وأنا أحمد الله على ما منح من آلائه، وأسأله العون على شكر ما خول من نعمائه، لا رب غيره.
أما سؤالك عن الفرق بين النعت وعطف البيان والبدل، وتمييز كل واحد منهم من صاحبيه، فإن هذه التوابع الثلاثة يمتاز كل واحد منها من صاحبيه بفضول تخصه، وهي مع ذلك مشتركة في أشياء تعملها، وأنا أذكر ما تنفصل به وما تشترك فيه، وبالله أستعين.
أما النعت والبدل فإنهما ينفصلان من سبعة أوجه: أحدها: أن النعت سبيله أن يكون بالصفات المشتقة من الأفعال، أو ما هو في حكم المشتق، جارية كانت الصفات على أفعالها أو غير جارية، والبدل حكمه أن يكون بالأسماء الجامدة والمصادر.
والثاني: أن النعت يجري على المنعوت في تعريفه وتنكيره، والبدل لا يلزم فيه ذلك [و] الثالث: أن النعت جزء من المنعوت؛ أعني أنه صفة من جملة صفاته التي يوصف بها، والبدل ليس بجزء في كل موضع، بل قد يكون جزءًا منه، كقولك: (ضرب زيد رأسه)، وقد يكون هو إياه، كقولك: (جاءني أخوك زيد)، وقد يكون حدثًا من أحداثه، كقولك: (أعجبني زيد حسنه) وقد يكون اسمًا مصاحبًا له صحبة عرضية، يمكن زوالها وانفصالها منه كقوله: (سلب زيد ثوبه).
والرابع: أن البدل// يجري مجرى جملة أخرى ذهبت بها الجملة الأولى، وتقدر فيه إعادة العامل، والنعت لا يجري مجرى جملة أخرى، ولا تقدر معه [إعادة] العامل ولكن هو الأول بعينه، ومن جملته.
والدليل على أن البدل يجري مجرى جملة أخرى [ظهور العامل معه في نحو قوله- عز وجل-: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف ٧: ٧٥]، وفي نحو قول الشاعر:
(ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد)والخامس: أن النعت يكون بما هو من المنعوت وبما هو من سببه، كقولك: (مررت برجل قائم)، فتصفه بصفة هي له، و (مررت برجل قائم أبوه) فتصفه بصفة هي لسببه، ولا يبدل من الاسم إلا ما هو هو، أو جزء منه، أو مصاحب له، ولا يبدل منه ما هو لسببه، ألا ترى أنك تقول: (ضُرِبَ زيد رأسه)، ولا يجوز: (ضُرِبَ زيد رأس أبيه)؟ .والسادس: أن البدل قد يكون منه ما يجري مجرى الغلط، ولا يكون ذلك في النعت.والسابع: أن النعت قد يكون منه ما يراد به المدح، أو الذم، أو الترحم، ولا يكون ذلك في البدل.
فهذه سبعة فصول ينفصل بها النعت من البدل.
وأما النعت وعطف البيان، فإنهما ينفصلان من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النعت يكون بالصفات- كما قدمنا- وعطف البيان يكون بالأسماء الجوامد كالبدل.
والثاني: أن النعت يكون بالمعارف والنكرات، وعطف البيان لا يكون إلا بالمعارف.والثالث: أن النعت يكون بما هو للمنعوت، وبما هو من سببه- كما قدمنا- وعطف البيان هو المعطوف عليه بعينه.وأما البدل وعطف البيان فينفصلان من أربعة أوجه: أحدها: أن البدل قد يكون هو المبدل منه بعينه، وقد يكون جزءًا منه، وقد يكون اسمًا مصاحبًا له، وقد يكون حدثًا من أحداثه، كما قدمنا، وعطف البيان هو المعطوف عليه أبدًا.
والثاني: أن البدل يكون بالمعارف والنكرات [والأسماء الظاهرة والأسماء المضمرة]، وعطف البيان لا يكون إلا بالأسماء المعارف الظاهرة.
والثالث: أن البدل- كما قلنا- يقدر معه إعادة العامل، وكأنه من جملة أخرى، وعطف البيان لا يُقدر فيه ذلك، بل هو في هذا الوجه كالنعت.
والرابع: أن البدل يجيء منه ما يراد به الغلط، وعطف البيان لا غلط// فيه، فهذه وجوه الانفصال بين هذه التوابع الثلاثة.أما وجوه الاشتراك، فإنها كلها تشترك في أن الغرض فيها البيان، والزيادة في الإيضاح، وفي أنها جارية على الأسماء التي قبلها في إعرابها، وفي العربية مواضع تشترك فيه الثلاثة كلها، وفيها مواضع يشترك فيها بعضها، فمن المواضع التي تشترك فيها كلها قولك: (رأيت زيدًا أبا عمرو)، فإن (أبا عمرو) ههنا يصلح أن يقال فيه: إنه نعت، ويصلح أن يقال فيه: إنه بدل، ويصلح أن يقال فيه: إنه عطف بيان.وأما المواضع التي يشترك فيها النعت وعطف البيان [فنحو]، قولك: بعثت إلك بالثوب الخز، وبالباب الساج.وأما المواضع التي يشترك فيها البدل وعطف البيان، فنحو قولك: (رأيت أبا عمرو زيدًا)، ومن هذه المواضع ما يشترك فيه التوكيد وعطف البيان وهو الموضع الذي يكرر فيه الاسم كقولك (رأيت زيدًا زيدًا)، و (لقيت عمرًا عمرًا).
وأما المواضع التي ينفرد بها البدل، والمواضع التي ينفرد بها النعت، فلا حاجة لنا إلى ذكرها [لشهرتها]، وأما المواضع التي ينفرد بها عطف البيان، ومن أجلها احتيج إليه في صناعة النحو، فنذكرها لغرابتها عند النحويين، وهي ثلاثة مواضع:
أحدها: باب النداء، والآخر: باب المبهمات، والثالث: باب اسم الفاعل، أما باب النداء فهو قولك: (يا حارثًا زيدًا)، ومنه قول رؤبة:
(إني- وأسطار سطرن سطرًا ... لقائل يا نصر نصرًا نصرًا)
فمن نصب جعلهما معًا عطف بيان على موضع (نصر) الأول، ومن رفع (نصرًا) الثاني ونونه جعله عطف بيان على اللفظ، وجعل (نصرًا) الثالث عطف بيان على الموضع، هذا رأي سيبويه والأصمعي وأبي عبيدة، وفي هذا البيت قولان آخران ليس هذا موضع ذكرهما، ومن هذا الباب قول الآخر:(فيا أخوينا عبد شمس ونوفلاً ... أعيذكما بالله لا تحدثا حربًا)وقد روي: "عبد الله شمس ونوفل" [بالرفع] على إضمار مبتدأ.
وأما باب المبهمات فنحو قولهم: (مررت بهذا الرجل)، و (لقيت هذا الغلام)، والنحويون يتسامحون في هذا ويسمونه نعتًا، وإنما هو في الحقيقة عطف بيان.
وأما باب اسم// الفاعل، فنحو قولك (هذا الضارب الرجل زيد) بخفض (زيد) على عطف البيان، ولا يصلح أن يكون بدلاً؛ لأن البدل يحل محل المبدل منه، ولو قلت: (هذا الضارب زيد) لم يجز؛ لأن ما فيه الألف واللام لا يضاف إلى ما ليس فيه ألف ولام، وأنشد سيبويه للمرار الأسدي:
(أنا ابن التارك البكري بشر ... عليه الطير ترقبه وقوعًا)
وقد رده أبو العباس المبرد من رأى رأيه على سيبويه، وقالوا: لا يصح إلا على النصب، والخفض خطأ، وتوهموا أن سيبويه أجازه على جهة البدل، وإنما أجازه سيبويه على عطف البيان الذي ذكرناه، فلا يلزمه ما اعترضوا به، فهذه هي المواضع التي يختص بها عطف البيان دون سائر التوابع، وأكثر ما يُستعمل عطف البيان في رد الأعلام على الكنى، ورد الكنى على الأعلام، كقولك: (رأيت أبا بكر زيدًا) و (رأيت زيدًا أبا بكر)، وسمي عطف البيان؛ لأنك عطفت على الأول فبينته؛ لأن معنى العطف الرجوع إلى الشيء بعد الزوال عنه، والفرق الذي بينه وبين العطف الذي بالحروف، أنك في عطف البيان تعطف الشيء على نفسه، وفي عطف الحروف تعطف الشيء على غيره.
فإن قال قائل: فإذا كان معنى العطف هو الرجوع، فكيف سمي اشتراك الاسم الثاني مع الأول بالواو، وغيرها من أخواتها عطفًا؟ فالجواب: أن حرف الاشتراك في نحو: (قام زيد وعمرو) ينوب مناب العامل، والأصل: (قام زيد وقام عمرو)، وينفرد كل واحد منهما بقيام يختص به؛ لأنه لا يصح وقوع فعل واحد من فاعلين، غير أنهم قصدوا الاختصار، فحذفوا العامل الثاني اجتزاء بالأول، وجعلوا (عمرًا) شريكًا لـ (زيد) في الفعل الأول نفسه ليفهم السامع أن لكل واحد منهما فعلاً يخصه، فكأنهم عطفوا على الأول فجعلوا له شريكًا في الفعل، بعد أن كانوا قد خصوه به وأفردوه، كما عطفوا عليه في الوجه الأول، فبينوه وأوضحوه، وهذا هو الفرق بين العطفين.
فإن قال قائل: هذا المعنى موجود في النعت والبدل، فهلا سميتموه عطف بيان؟ فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الشيء إذا سمي باسم مشتق من معنى موجود فليس يلزم أن// يسمى كل من وجد فيه ذلك المعنى بذلك الاسم في اللغة العربية، ألا تراهم سموا النجم (سماكًا) لسموكه وارتفاعه ولا يلزم من ذلك أن يسمى كل مرتفع سماكًا؟
وكذلك سموا (الدبران)؛ لأنه يدبر (الثريا)، ولم يلزم من ذلك أن يُسمى كل من يدبر شيئًا (دبرانًا)، وهذا كثير تغني عنه شهرته عن القول فيه.
والجواب الثاني: أن النعت، والبدل، وعطف البيان، أغراضها مختلفة، فجعل لكل واحد منها اسم يدل على الغرض المراد منه، فالغرض في النعت تخصيص النكرة، وإزالة الاشتراك الذي يعرض في المعرفة، أو المدح أو الذم، وهذا المعنى إنما يكون بذكر صفة من صفات الاسم داخلة فيه أو خارجة عنه، فكان النعت أليق الأسماء بهذا المعنى؛ لأن العرب تقول: نعت الشيء أنعته نعتًا، إذا ميزته ببعض صفاته، قال الراجز:
(ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين)
(جبتهما بالنعت لا بالنعتين)
أي: وصفا لي مرة واحدة فلم أحتج إلى أن يوصفا لي مرة ثانية.
وقال الراعي:
(وأرض إذا أمست تشابه بيدها ... على نعت نعات أتى الليل دونها)
وأما البدل فله ثلاثة أغراض، أما بدل الشيء من الشيء وهما لمعنى واحد، فالغرض منه إعلام المخاطب بمجموع الاسمين احتياطًا في البيان، فإن فهم المراد بأحدهما كان الآخر تأكيدًا في البيان، وإن لم يفهم بأحدهما فهم بالآخر.
وأما بدل الاشتمال، فالغرض فيه ذكر بعض ما يشتمل عليه الكلام الأول إيضاحًا للمراد، كقولك: سُلب زيد، فيحتمل أن يقع السلب بثوبه وبغيره من أسبابه، ثم تقول ثوبه أو نعله، تبيينًا لما تريد، وهذه الوجوه الثلاثة يقدر فيها ارتفاع الأول وحلول الثاني محله، فكان البدل [أليق] الأسماء به ليبين عن معناه؛ لأن العرب تقول: أبدلت الشيء من الشيء إذا// عوضته منه، وتقول: خذ هذا بدلاً من هذا، أي: عوضًا.
وأما بدل البعض من الكل، فإن الغرض فيه تخصيص ما يجوز أن يكون عامًا لأنك إذا قلت: لقيت القوم جاز أن تريد جميعهم، وجاز أن تريد بعضهم، فإذا قلت: أكثرهم أو بعضهم، أزلت العموم وحققت الخصوص.
وأما قولك: لمَ جاز أن تبدل النكرة من المعرفة، والمعرفة من النكرة، ولم يجز مثل ذلك في النعت؟ فإنما امتنع ذلك من النعت لعلتين: إحداهما: أن المنعوت في أكثر مواضعه لا يبين إلا بالنعت.
فلما كان كذلك صار هو والنعت كالشيء الواحد، ولا يصلح أن يكون شيء واحد معرفة نكرة في حال واحدة من جهة واحدة.
والعلة الثانية أن المعرفة لما كانت خاصة أشبهت المفرد، والنكرة لما كانت عامة أشبهت الجمع، فمن حيث لم يجز أن ينعت جمع بمفرد، ولا مفرد بجمع، لم يجز أن تنعت معرفة بنكرة، ولا نكرة بمعرفة، والبدل ليس مع المبدل كالشيء الواحد، وإنما يقدر تقدير جملة ثانية، والدليل على ذلك جواز إعادة العامل معه فيما قدمنا ذكره، فلم يستحل فيه من أجل ما استحال في النعت.
وأما سؤالك: هل يجوز في عطف البيان ما جاز في البدل من حمل المعرفة على النكرة، وحمل النكرة على المعرفة؟ فقد أعلمتك فيما تقدم من كلامي أن عطف البيان إنما يستعمل في المعارف الجامدة الظاهرة خاصة عند جمهور النحويين، على أن قومًا من النحويين قد سموا رد الأجناس المنكورات على الأسماء في نحو قولك: مررت بثوب خز وباب ساج، عطف بيان.
ورأيت أبا علي الفارسي قد قال في قوله تعالى: {زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور ٢٤: ٣٣٥]: إن (زيتونة) عطف بيان، وهذا غلط منه، والدليل على أنه غلط منه شيئان أحدهما: أن الفارسي نص في الإيضاح على أن عطف البيان إنما يكون في الأسماء المعارف الجامدة، وهذا يناقض ما قاله في (زيتونة).
والثاني: أن الغرض في عطف البيان تبيين الاسم الذي يجري عليه وإيضاحه، لذلك سموه النحويون عطف بيان، والنكرة لا يصح أن يبين بها غيرها؛ لأنه لا يبين مجهول بمجهول، إنما يبين المجهول بالمعروف.
فإن قال قائل: فقد وجدناكم تبينون المجهول بالمجهول في قولكم: «مررت برجل ظريف»، ووجدناكم تبينون المعروف بالمجهول في قولكم: (مررت [بزيد] // رجل صالح)، وهذا عكس القياس، فالجواب أن (ظريفًا) من قولك: (مررت برجل ظريف) لم يعرف رجلاً حتى يصير بحيث توضع عليه اليد، وإنما أفادته الصفة نوعًا من التخصيص، والدليل على ذلك أن من جهل رجلاً يعرفه وأخبر أنه ظريف لم يفده ذلك معرفة رجل بعينه، فقد سقط هذا الاعتراض.
وأما قولنا: (مررت بزيد رجل صالح)، فليس غرض المخبر أن يعرف (زيدًا) عند من يجهله، فيلزم هذا الاعتراض.
والدليل على ذلك أن من جهل (زيدًا) وخبر بأنه رجل صالح لم يكن في ذلك ما يعرفه به، فثبت بهذا أن القائل: (مررت بزيد رجل صالح) ليس غرضه تعريف (زيد) وإنما غرضه أن يثني على زيد بأنه رجل صالح، أو يكون المخاطب قد علم (زيدًا) ولم يعلم أنه رجل صالح، أو علم رجلاً صالحًا ولم يعلم بأنه (زيد)، فأفاده المخبر بذلك.
وأما سؤالك عن وصف المضمر فإن المضمر لا يوسف ولا يوصف به، أما امتناعه من أن يوصف فلثلاث علل: إحداها: أن المضمر لا يضمر إلا بعد أن يعرفه المخاطب، فلما كان كذلك استغنى عن النعت.
والعلة الثانية أن المنعوت لما كان لا يبين في أكثر المواضع إلا بالنعت، صار مع نعته كالشيء الواحد، فكما لا يجوز أن يكون الشيء مظهرًا مضمرًا في حال واحدة، فكذلك لا يجوز أن يكون الموصوف مضمرًا وصفته اسمًا ظاهرًا يدل على صحة هذا أن العرب يقولون: (مررت به هو)، و (قمت أنا) فيؤكدون المضمر بالمضمر لما كان مشاكلاً له.
والعلة الثالثة: أن المضمر أشبه حروف المعاني؛ لأنه لا يُعقل حتى يتقدم ما يعود عليه، فضارع الحرف الذي معناه في غيره، فلم يجز أن يوصف كما لا توصف الحروف.
فإن قلت: فيلزمك على هذا ألا تصف شيئًا من المبينات لأنها كلها مضارعة للحروف، فالجواب: أن المضمر أشد المبينات شبهًا بالحروف، فلشدة توغله في شبهها لم يكن حكمه حكم غيره، والدليل على شدة توغله في شبه الحروف أنك تجد من الضمائر ما هو على حرف واحد، ولا تجد ذلك في غيرهما، وتجد المضمر قد يتعدى من الاسمية في بعض المواضع ويصير حرفًا محضًا، نحو (التاء) في (أنت)، والكاف في (ذلك) وفي قولهم: (النجاءك) ونحو ذلك، وأما// امتناع المضمر من أن يوصف به؛ فلأن النعت لا يخلو من أن يراد به رفع الإشكال، أو المدح، أو الذم، والمضمر لا يصح فيه شيء من ذلك، ألا ترى أنك إذا قلت: جاءني زيد، فأشكل على المخاطب والتبس بغيره، فليس في قولك: (هو) ما يجعله معروفًا عنده.
وكذلك إن أردت أن تمدحه أو تذمه فليس في قولك: (هو) معنى يمدح به، ولا معنى يذم به، فبطل الوصف به لذلك.
فإن قال قائل: فكيف جاز أن يبدل من المضمر وقد قلتم: إنه في نهاية البيان، فيقال: مررت به زيد؟ فالجواب عن هذا من وجوه، منها: أن البدل مع المبدل منه كالشيء الواحد فيستحيل فيه ما يستحيل في النعت، إنما يقدر تقدير جملة أخرى، ومنها: أنه [ليس] كل بدل تقصد به رفع إشكال يعرض في المبدل منه، بل من المبدل ما يراد به التأكيد، وإن كان ما قبله غنيًا عنه، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى ٥٢ - ٥٣]، ألا ترى أنه لو لم يذكر (الصراط) الأول لم يشك أحد في أن الصراط المستقيم هو صراط الله؟ ، وقد نص سيبويه على أن من البدل ما الغرض فيه التأكيد، فإذا لم يلزم في كل بدل أن يكون رافعًا للإشكال لم يلزم ما سأل عنه هذا السائل.
ويزيد هذا عندك وضوحًا ما أجازه النحويون من إبدال المضمر من المضمر، كقولهم: (لقيته إياه)، فلو كان المراد بكل بدل رفع الإشكال لم يجز هذا؛ لأن الهاء في قولك: (لقيته) إن كانت مجهولة عند السامع فليس في ذكرك إياه ما يجعلها معرفة لديه.ومن ذلك أن قول النحويين: إن المضمر امتنع وصفه؛ لأن في غاية البيان، ليس المراد به أن كل مضمر بهذه الصفة؛ لأنا نجد من المضمرات ما هو مجهول، كقولك: (وجدت في الدار رجلاً فجالسته)، فهذا الضمير ونحوه ليس بمعروف، وإنما سماه النحويون معرفة؛ لأن السامع يعلم أنه يعود إلى الرجل المذكور في أول الكلام دون غيره، فإذا كان كذلك ثبت أنهم إنما أرادوا بهذا التعليل أن بعض المضمرات لما كان في غاية البيان، فاستغنى عن النعت حمل سائر المضمرات عليه، ولهذا نظائر في صناعة النحو، ومع هذا فلو كان// كل ضمير في غاية البيان على ما توهمه المتوهم لوجدنا لقولهم: «مررت به زيد» وجهًا يصح فيه البدل، وذلك أن يجري ذكر (زيد) في مجلس فيقول قائل: «مررت به»، فيضمره لما جرى من ذكره، ثم يتوقع أن يظن به أنه أراد غيره، فيذكر اسمه رفعًا للإشكال، وهذا وجه صحيح لا ينكره منكر.
ومما يؤيد بطلان هذا الاعتراض أيضًا- وإن كان بعض ما ذكرناه يكفي- أنه لا يصح إلا في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فأما بدل البعض من الكل، وبدل الاشتمال، وبدل الغلط، فلا يصح اعتراضه في شيء من ذلك.
ألا ترى أنك إذا قلت: ضربته وجهه، وجدت في (الهاء) من الاحتياج إلى البيان- وإن كانت معرفة عند المخاطب- مثل الذي تجد في الاسم الظاهر إذا قلت: ضربت زيدًا وجهه، وكذلك تجد قولك: (انتفعت به علمه) محتاجًا إلى البيان كاحتياج قولك: (انتفعت بزيد علمه).
وقد اختلف النحويون في ضمير المتكلم وضمير المخاطب: هل يجوز إبدال الظاهر منهما على إبدال الشيء من الشيء وهما لعين واحدة فيقال: (ضربتك زيدًا).
و (ضربتني أخاك)؟ فكان الأحفش يجيز ذلك ويحتج بقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا} [الأنعام: ١٢]، وهذا خطأ عند النحويين؛ لأن ضمير المتكلم في نهاية البيان، وكذلك ضمير المخاطب فلا يصح فيه البدل، فإن احتج الأخفش بأن من البدل ما يراد منه التأكيد على ما قدمناه لم يصح ذلك في هذا الموضع؛ لأنه إذا أبدل الظاهر من ضمير المتكلم وضمير المخاطب فقد حل الظاهر محلهما، ولا تستعمل الأسماء الظاهرة في إخبار المتكلم عن نفسه ولا في الخطاب، ألا ترى أنك تقول عن نفسك: قمت، ولا يصح أن تقول للمخاطب: قام زيد وأنت تريد: (قمت)؛ لأنك توهم أنك تخبره عن غيره.
ولم يختلف النحويون في جواز البدل من ضمير المتكلم والمخاطب إذا كان بدل بعض من كل وبدل اشتمال، كقولك: ضربتني وجهي، وسلبتك ثوبك، وأنشد سيبويه:
(ذريني أن أمرك لن يطاعا ... وما ألفيتني حلمي مضاعا)
وأما سؤالك: هل يجوز أن يعطف على المضمر عطف بيان؟ فإن لم أر في// ذلك لأحد من النحويين قولاً، والقياس عندي ألا يجوز؛ لأنهم قد جعلوا عطف البيان بمنزلة النعت، فيجب أن يجري في الامتناع من الجواز مجراه.
وأما سؤالك: لمَ لمْ يجز أن توصف المعرفة بما هو أخص منها وأكثر تعريفًا، وجاز ذلك في النكرة؟ فإنما ذلك لأن الغرض في صفة المعرفة خلاف الغرض في صفة النكرة، فلاختلاف الغرضين اختلفت حالتا الصفتين.
أما الغرض في صفة المعرفة، فإنما هو إزالة الاشتراك العارض فيها أو المدح أو الذم، فلم يجز أن تكون أخص من موصوفها لثلاث علل: إحداها: أن المعرفة لا يعرض الشك لجميع المخاطبين بها، ولو كانت كذلك لم تسم معرفة، وإنما يعرض فيها الشك عند بعض من يخاطب بها فهي غنية عن الوصف في أكثر أحوالها، وأما الصفة فهي مجهولة عند كل من يسمعها حتى يذكر موصوفها الذي يخصصها، فلما كان موصوفها غنيًا في أكثر أحواله وهي مفتقرة إليه في جميع أحوالها، صار موصوفها أخص منها.
ألا ترى أن (العاقل) و (الظريف) و (الكريم) ونحوها صفات عامة يوصف بها كل من وجد فيه عقل أو ظرف أو كرم، فإذا ذكر المخبر شيئًا منها لم يعلم السامع من المقصود بتلك الصفة؟ فإذا قال: زيد العاقل، أو عمرو الظريف، أو جعفر الكريم، صارت هذه الصفات مختصة بهؤلاء المذكورين دون غيرهم ممن يجوز أن يوصف بها.
ولم يوضع (زيد) ونحوه من الأعلام في أصل وضعه ليسمى به كل من هو على صورته، كما وضع (العاقل) ونحوه من الصفات ليوصف به كل من وجدت فيه تلك الصفة، فقد بان بهذا أن الموصوف أخص من الصفة، وأن الصفة أعم منه، أعني ما تقدم ذكره من المعارف.
والعلة الثانية: أن صفة المعرفة إنما المراد منها الزيادة في البيان، والزيادة جزء من المزيد، فيلزم من ذلك أن يكون حظ المزيد فيه من البيان أكثر من حظ الزيادة.
والعلة الثالثة- وبها ينبغي أن تعلل الصفات التي يقصد بها المدح أو الذم: أن صفة المعرفة بعض ما يشتمل عليه الموصوف من الصفات.
ألا ترى أنك إذا قلت: جاءني زيد العاقل، و (زيد) يشتمل على صفات كثيرة والعاقل واحدة منها// تخصصه إذا ذكرت كما يخصص (العاقل)، فكان حظ (زيد) من التخصيص لهذا الاعتبار أضعاف حظ (العاقل)، ولهذا قال سيبويه وغيره من البصريين: «إن العلم كأنه مجموع صفات كثيرة» يريدون بذلك أن (زيدً) و [نحوه] لو لم يكن اسم علم يخصه ثم احتاج المخبر إلى الإخبار عنه لاحتاج أن يقول: جاءني الرجل الطويل صاحب الثوب الأبيض ابن الرجل الفلاني الساكن في موضع كذا، فيذكر عشرين صفة ونحوها حتى يفهم السامع عنه، وربما لم يفهم السامع وعجز المخبر عن تعديد صفات المخبر عنه، فاختصر ذلك كله بأن سمي (زيدًا) أو (عمرًا) فناب هذا الاسم العلم في الإخبار عنه مناب تلك الصفات الكثيرة.
فإن عرض بعد ذلك شيء من الإشكال عند بعض المخاطبين زاد المخبر عنه صفة أو صفتين من صفاته التي اشتمل عليها فيكون ذلك أخف وأيسر من تعديد الصفات، فلهذه العلل الثلاث لزم أن يكون الموصوف إذا كان معرفة أخص من صفته.
فأما النكرة فالغرض في وصفها تقريبها من المعرفة، فلم تخل صفتها من أحد ثلاثة أشياء، إما أن تكون أعم منها، وإما أن تكون مساوية لها، وإما أن تكون أخص منها، فلو كانت صفتها أعم منها كان ذلك مبعدًا لها من المعرفة لا مقربًا، وهذا نقض الغرض، وإن كانت صفتها مساوية لها في العموم عريت من الإفادة، وكان ترك الصفة وذكرها سواء، فلزم أن يكون أخص منها اضطرارًا.
ويبين هذا أنك لو قلت لصاحبك: اذهب فجئني برجل، لخرج وأتاك بأول رجل يجده، فإن قلت له: جئني برجل ظريف، لم يجئك بكل من يجده من الرجل، وتعذر وجوده عليه أشد من تعذر وجود الأول، فإن قلت له: جئني برجل ظريف عاقل، كان أشد تعذرًا وأقل لوجوده، ولهذا قال المتكلمون: «الزيادة في الحد نقصان من المحدود»، وفي هذا المعنى يقول بعض المحدثين:
(يسر الفتى بالحين يجلب راحة ... وأيامه تمضي كما انتثر العقد)
(وينقص منه كل وقت يزيده ... كما نقص المحدود حين نما الحد)
// قال أبو محمد- رحمه الله-: فهذا ما عندي من الجواب عن سؤالك،
والحمد لله كثيرًا، وصلى الله على محمد بكرة وأصيلاً، وسلم تسليمًا.
كملت المسألة بحمد الله تعالى وعونه لا رب سواه ولا معبود إلا إياه.
الفرق بين النعت وعطف البيان والبدل – ابن السيد البطليوسي
Tagged in :
fb.com/almokhtaarcom
2.200
صفحتنا على فيس بوك