التلقي المنتج: تلقي أحمد شوقي لبائية أبي تمام (فتح عمورية) – المختار السعيدي

الصورة الرمزية لـ المختار almokhtaar.com

إن الحكم بتأثر أحمد شوقي بنص أبي تمام لا يجد سنده في الجوانب التخطيطية – مع التنبيه إلى كون الحديث عن الجوانب التخطيطية لا يتم إلا من خلال وجود ذات قارئة – التي سأعرض لها لاحقا، فحسب، وإنما يتعدى ذلك إلى القراء الذين تلقوا نص شوقي أيضا، وفي مقدمة هؤلاء القراء نجد عميد الأدب العربي طه حسين الذي يرى: (أن شوقي إنما اتخذ قصيدة أبي تمام، هذه، نموذجا حين أراد أن ينظم قصيدة في انتصار الترك (…) فأبو تمام إذن، هو الذي قدم إلى شوقي قوافيه، وشيئا غير قليل من ألفاظه ومعانيه)([1]) .

ويتضح أن طه حسين اتخذ موقفا جماليا سلبيا من بائية شوقي مقارنة مع بائية أبي تمام، إذ أبرز أن أفق توقع القدماء ذاته لا يسيغ قصيدة شوقي، فضلا عن أفق توقع المحدثين، ليخلص إلى أن قصيدة أمير الشعراء أشبه بتمرين مدرسي طفولي، حيث يوضح ذلك قائلا: (انتهينا إلى أن ذوقنا القديم نفسه، على تحرجه، لا يستطيع أن يسيغ قصيدة شوقي، بعد أن أبى ذوقنا الحديث أن يسيغها! وكانت خلاصة رأيك ورأيي: أن هذه القصيدة إنما هي أشبه شيء بالتمرين المدرسي، يذهب به الأطفال مذهب المحاكاة للنماذج الفنية التي تلقى إليهم، فيوفقون في الصورة، ويخطئون الموضوع. أتذكر هذا كله؟ وإذا كنت تذكره فأنت تذكر رأيك ورأيي في الذوق الأدبي، أما أنا فما زلت محتفظا برأيي)([2]).

وفي حديث طه حسين عن الذوق القديم والذوق الحديث ما ينم عن امتزاج الأفقين: الماضي والراهن، حيث تخلى عميد الأدب العربي عن أفقه الراهن الذي لم يستجب له نص شوقي المعاصر، في حين استجاب له نص أبي تمام القديم، وحاول تقمص الأفق الماضي الذي لم يستجب له أيضا نص أمير الشعراء، مما يعني أن هذا النص يخيب أفق توقع المتلقين القدامى والمحدثين على حد سواء، من وجهة نظر طه حسين، عكس نص أبي تمام.

 ولعل أحد عوامل تخييب نص شوقي لأفق توقع طه حسين يتجلى في عدم جواب ذلك النص عن أسئلة المنهج التاريخي الذي قرأ به طه حسين الشعر العربي، لا سيما حديثه عن تشبيه أبي تمام يوم عمورية بيوم بدر، حيث رأى طه حسين أن شوقي أخذ: (هذا التشبيه من أبي تمام فألصقه بمصطفى كمال، ولم يكن مصطفى كمال خليفة، بل كان خارجا على الخليفة، ولم يكن يجاهد للدين، بل كان يجاهد للوطن، ولم يكن يجاهد بالسيف والرمح والخيل، وإنما كان هذا أقل أدوات الحرب خطرا. وأساء شوقي اختلاس هذا التشبيه، فقد كنا نرى أن أبا تمام أورده مورد الشك حين استعمل أداة الشرط، وأورده شوقي مورد اليقين، وأن أبا تمام أورده في بيتين، وأورده شوقي في أبيات)([3]). وتكشف هذه المقارنة عن المعايير الجمالية التي استند إليها طه حسين في الحكم على صورة شوقي؛ يتمثل أولها في علاقة النص بالواقع، فاستجابة صورة أبي تمام لأفق توقع طه حسين ترجع إلى قربها من الحقيقة عكس صورة شوقي، ويتمثل ثانيها في التعبير الأسلوبي الذي يكمل المعيار السابق، ما دام إيراد أبي تمام للتشبيه مورد الشك أقرب للحقيقة من إيراد شوقي ذلك التشبيه مورد اليقين، ويتمثل ثالثها في الجانب الكمي الذي يذكرنا بمعايير القدماء، لا سيما ذلك المعيار الذي يرى أن “خير الكلام ما قل ودل”.

وانطلاقا من هذه المعايير، فإن طه حسين لم يعارض رأي صاحبه الذي كان يقول: (إن البيت الأول من بيتي أبي تمام يعدل قصيدة شوقي كلها)([4])؛ بل كان يقول أيضا إن أحد أبيات أبي تمام يزن ديوان شوقي كله([5]).

ومن بين القراء الذين حكموا بانطلاق شوقي في إبداع نصه من قصيدة أبي تمام، نجد عبد الله التطاوي الذي رأى أن شوقي: (يقترب منها عامدا، وكأنما وجد فيها ضالته التي يستهدفها حين أراد أن ينظم بائيته التي عنون لها “بانتصار الأتراك في الحرب والسياسة”، وكأن هذه العنونة توحي بإمكانية المعارضة الصريحة، بدءا من ذلك التوافق المطروح في موضوع القصيدة، وتجربة الشاعر إزاءه)([6])، وقد ذهب التطاوي إلى أن معارضة شوقي لنص أبي تمام تمت عبر ثلاث لوحات كبرى؛ الأولى (تتعلق بالسيف والرمح، وتدور في محاور القوة)([7])، والثانية تمت من خلال تصوير القائد (واستسلامه وجبنه، وكيف انصرف عن أنصاره حين أراد النجاة بنفسه)([8])، أما الثالثة فقد تمثلت في (موقف النصر، ابتداء من ذكر اليوم نفسه، إلى تلمس أيام التاريخ الخالدة، بحثا عن أشباه له)([9])، إضافة إلى بعض اللوحات الجزئية التي تكشف عن طبيعة المعارضة الصريحة التي قصد إليها أمير الشعراء([10]).

وخلافا لموقف طه حسين، فإن عبد الله التطاوي يبرز بعض مظاهر التلقي المنتج عند أحمد شوقي، إذ يقول – مثلا – عن لغة اللوحة الأولى: (وإن ظلت لغة شوقي – على الرغم من هذا التشابه – مميزة له، إلى جانب بعدها التصويري القائم على أساس المعارضة، حيث يمتد لديه مشهد السيف من مجرد حكمة بدأ بها أبو تمام بائيته، أو مجرد نقيض للصحف السوداء التي خطتها مزاعم المنجمين، ليجتمع مع الرأي، ويتوقف مع القيادة، ويشير إلى نجاح السياسة، فإذا بالسيف هنا يظل في غمده، طالما كان الحق ظاهرا بذاته، منتصرا بما يسنده من صور القوة، وما يحميه أيضا من حد هذا السيف)([11]).

وهذا الاختلاف في فاعلية التلقي بين طه حسين والتطاوي، يؤكد أن نص أحمد شوقي يتقاطع مع نص أبي تمام في أمور، ويختلف معه في أخرى، ومن هنا لم يقف أمير الشعراء عند عتبة إعادة النص، وهو أمر مستحيل في فن المعارضة الشعرية العربية، بل تعدى ذلك إلى إبداع  نص جديد، يجيب عن أسئلة العصر، دون أن يقطع الصلة بالأسئلة التي أجاب عنها نص حبيب، لذا وجبت دراسة نقط  الائتلاف والاختلاف بين النصين، لإبراز سمات التلقي المنتج لدى أمير الشعراء.

الحدث التاريخي والحدث الأدبي

 قد يبدو الأمر غريبا حين نرى نص شوقي يتحدث عن الانتصار في زمن الهزائم؛ غير أن هذه الغرابة سرعان ما تزول حدتها في عجز المطلع، حين نلفي أن الانتصار الذي يتحدث عنه شوقي لا يخص قائدا عربيا، بل تركيا، كما تدل على ذلك عبارة: (خالد الترك)، بل إن ذلك العجُز يتضمن عجِْز القيادة العربية الراهنة عن فعل البطولة، كما يتضح من صيغة الأمر: (جدد)؛ لذا فإن الفراغات التي تتضمنها عبارة: (خالد العرب) لا تحدد، فقط، بسيف الله المسلول خالد بن الوليد، بل إنها تشمل قيادات عربية خالدة، يمثل المعتصم إحداها.

وإذا كان شوقي ينطلق، مثل أبي تمام، من حدث تاريخي، يتمثل في معركة الأناضول التي خاضها الجيش التركي ضد اليونان، وما أعقب ذلك من صلح بمدينة لوزان، فإنه في مدحه قائدا غير عربي – في زمن الهزائم العربية – يجيب عن سؤال العصر الذي غاب عنه من يلبي الصوت الصارخ، مما سيؤكده صلاح عبد الصبور كما سنرى. ومثلما انطلق أبو تمام من نهاية المعركة الظافرة ليصوغ حكمة المطلع، انطلق شوقي من نصر المعركة ليصوغ المطلع، بيد أنه لم يقدم حكمة مثل أبي تمام، بقدر ما عكس المطلع تلك البطولة العربية الغائبة، من خلال إعلانه التعجب في الصدر، وطلبه من البطل التركي أن يجدد البطلَ العربي في العجُز.

وانطلاقا مما سلف، نستنتج أن شوقي قد انطلق، في بناء نصه، من الحدث التاريخي الراهن (موقعة سقاريا ومعاهدة لوزان)، معرجا على الحدث الأدبي الماضي (بائية أبي تمام)، ومن ثمة نكون في حقيقة الأمر أمام أربعة أحداث: حدثان تاريخيان، وحدثان أدبيان.

فنص أحمد شوقي يمثل بؤرة تلك الأحداث ؛ وهو مثل نص أبي تمام، كان نتيجة الظفر بالمعركة (الحدث التاريخي)؛ دون أن يعني هذا القول بالنظرية الانعكاسية التي تهمل تأثير الأدب في المجتمع والتاريخ، كما بينت ذلك عند قراءة نص أبي تمام. ونلاحظ أن نص شوقي يتجاذبه حدثان بشكل مباشر، ومن ثمة نلفي المسافة شاسعة بين الحدثين التاريخيين، لكنها متقاربة بين الحدثين الأدبيين، وتفسر طبيعة الأحداث نفسها هذا التقارب وتلك الشساعة، حيث يسّر تخلص الحدث الأدبي من متعلقات التاريخ وتحديداته ذلك التقارب بين الحدثين.

وتكشف الأبيات التالية ذلك التجاذب، حيث يقول شوقي:

تَدَرَّعَتْ     لِلِقاءِ     السِّلمِ      أَنقَرَةٌ      وَمَهَّدَ  السَيفُ  في  «لوزانَ»  لِلخُطَبِ

فَقُل   لِبانٍ    بِقَولٍ    رُكنَ    مَملَكَةٍ      عَلى  الكَتائِبِ  يُبنى  الْمُلكُ  لا الْكُتُبِ

لا  خَيرَ  في  مِنبَرٍ   حَتّى   يَكونَ   لَهُ      عودٌ مِنَ السُّمْرِ أَو  عودٌ  مِنَ  القُضُبِ

وَما   السِلاحُ   لِقَومٍ   كُلُّ    عُدَّتِهِمْ      حَتّى  يكونوا  مِنَ  الأَخلاقِ  في  أُهُبِ

  لَو كانَ في  النابِ  دونَ  الخُلقِ  مَنبَهَةٌ    تَساوَتِ  الأُسدُ  وَالذُؤبانُ  في الرُّتَبِ([12])

إذ يتجسد الحدث التاريخي الراهن في حديث أحمد شوقي عن معاهدة لوزان الموقعة سنة 1923([13])، والتي مثلت تتويجا للمعارك التي خاضها الأتراك بقيادة مصطفى كمال ضد اليونانيين، وفي مقدمتها معركة سقاريا التي يقول عنها شوقي:

  ما  كانَ  ماءُ  «سَقارَيّا»  سِوى  سَقَرٍ      طَغَتْ  فَأَغرَقَتِ  الإِغريقَ   في   اللَّهَبِ([14])

وهكذا تغدو الحرب (السيف، الكتائب، السمر، القضب) وسيلة من وسائل المفاوضات (السلم، الخطب، قول، منبر، الكتب)، وتمهيدا لها على حد تعبير أمير الشعراء؛ فالقوة تمثل خلفية تدعم المفاوضات، غير أن هذه القوة يجب أن تخضع لتوجيه الأخلاق التي تصنع شخصية المحارب وتميزه، كما يتضح من البيتين الأخيرين؛ والأخلاق يجب أن ننظر إليها في سياقها الحربي، حيث لا تختلف أخلاق أسد مصطفى كمال عن أخلاق أسد المعتصم الذين علت همتهم يوم الكريهة إلى المسلوب.

أما الحدث الأدبي الماضي فيحيلنا على أبيات أبي تمام التي مجد فيها القوة منذ المطلع، وتحدث عن خراب عمورية الذي انتقلت عدواه إليها من أنقرة، وتوضح قوافي الأبيات الثلاثة الأولى من مقطع نص شوقي السابق، أبيات أبي تمام التي انطلق منها أمير الشعراء في إنتاج نصه الجديد؛ إذ لا ريب في أن مطلع قصيدة أبي تمام قد تفاعل معه شوقي تفاعلا أثمر البيت الثاني من المقطع السابق، ويبرز ذلك بشكل جلي حين نقارن بين صدر مطلع أبي تمام وعجز بيت شوقي:

السَّيْفُ أَصْدقُ أَنْباءً مِنَ الْكُتُبِ (أبو تمام)

عَلى الْكَتائِبِ يُبنى الْمُلكُ لا الكُتُبِ (شوقي)

حيث يقابل السيف عند أبي تمام الكتائب عند شوقي، كما تقترب دلالة صدق السيف عند أبي تمام من دلالة بناء الملك على الكتائب عند شوقي، ذلك أن الأنباء التي زفها سيف عمورية وطدت ملك المعتصم، كما أن الملك الذي بناه مصطفى كمال قد زفته أنباء سيف كتائب سقاريا، أضف إلى ذلك تراجع قيمة الكتب عند الشاعرين: أبي تمام حين فضل عليها السيف، وشوقي حين سلبها أساس بناء الملك. غير أن هذا التقارب بين الشطرين سرعان ما يغدو سرابا حين نستحضر سياقيهما عبر وجهة النظر الجوالة، خاصة تلك الكلمة المركزية التي تختم الشطرين: “الكتب”، فإذا كانت دلالة هذه الكلمة في نص أبي تمام تنصرف إلى السبعة الشهب وإرجاف المنجمين قبل المعركة، فإن دلالتها في نص شوقي تنصرف إلى المفاوضات التي أعقبت المعركة، وهذا ما يفسر حديث أبي تمام عن أنباء السيف التي أفحمت أنباء المنجمين، في حين يتحدث شوقي عن استحالة بناء الدولة على أساس المفاوضات، دون جيش قوي يشكل الذراع اليمنى للساسة المفاوضين. إذ يؤكد هذا البيت ما قرره شوقي في سابقه حين قال:

تَدَرَّعَتْ     لِلِقاءِ     السِّلْمِ      أَنقَرَةٌ      وَمَهَّدَ  السَّيفُ  في  «لوزانَ»  لِلْخُطَبِ

إذ  نلاحظ أن الخطب التي عجزت عن وصف فتح عمورية في نص أبي تمام، قد تقوّت في نص شوقي “بـفتح” مصطفى كمال. وإذا كانت دلالة كلمة القافية في نص أبي تمام تشمل الجنس الأدبي المتمثل في فن الخطابة، فإنها في نص شوقي تدل على القول السياسي للوفد التركي المفاوض في لوزان؛ ومن ثمة كان عجز الجنس الأدبي عن الإحاطة بوصف المعركة في بيت أبي تمام يؤكد عظمة الفتح، كما أن قوة القول السياسي تؤكد عظمة النصر في بيت شوقي.

كما نلفي في هذا البيت أثر تفاعل شوقي مع بيتين آخرين لأبي تمام، الأول قوله:

   جَرَى لَهَا الْفَأْلُ بَرْحًا يَوْمَ أَنْقَرَةٍ   إِذْ غودِرَتْ وَحْشَةُ السَّاحاتِ وَالرِّحَبِ([15])ّ
والثاني قوله:

  بَصُرْتَ بِالرَّاحَةِ الْكُبْرى فَلَمْ تَرَهَا       تُنالُ إِلَّا عَلى  جِسْرٍ  مِنَ  التَّعَبِ([16])

بيد أن أحمد شوقي قد تفاعل إيجابيا مع بيتي حبيب، ومزجهما بالأفق التاريخي الراهن.

أما البيت الثالث من مقطع شوقي السالف، فإنه لا يخرج عن هذه الثنائية التي تبرز أهمية السيف قبل التفاوض، لذا تبدو علاقته ببيت أبي تمام لا تتجاوز الاستعمال اللفظي للسمر والقضب، مع الإشارة إلى الدلالة الرمزية لهذين المصطلحين، رمزية لم يأخذها طه حسين بعين الاعتبار في رد فعله، وذلك حين رأى أن السمر والقضب أقل أدوات الحرب خطرا في عصرنا الحديث. والمتأمل في بيت شوقي يلفي مزيدا من الفنية الكامنة، ففضلا عن رمزية السمر والقضب، نجد أن دلالتهما الحقيقية تنسجم والدلالة الحقيقية للمنبر، باعتبار أن الأصل واحد، ناهيك عن الوظيفة المقصودة في النص، والتي تجمع القوة بينها، سواء أكانت القوة قوة قول أم قوة فعل.

ولعل تلك الثنائية بين السيف والصلح؛ المعركة والمعاهدة، قد جسدها شوقي منذ بداية النص حين قال:

صُلحٌ   عَزيزٌ   عَلى   حَرْبٍ   مُظَفَّرَةٍ        فَالسَّيْفُ في غِمْدِهِ  وَالْحَقُّ  في  النُّصُبِ([18])

وإذا كانت المعركة قد سبقت المفاوضات في الحدث التاريخي، فإنها غالبا ما تحتل عجز البيت في الحدث الأدبي، كما يتضح من الأبيات الثلاثة الأولى ضمن المقطع السالف، ويبرز هذا الموقع أهمية القوة عند شوقي، نظرا لقيمة العجز الذي يتضمن القافية التي تمثل البحيرة التي تصب فيها باقي الكلمات([19])، وهو بذلك يؤكد قيمة القوة كما فعل أبو تمام من قبل، بيد أنه لا ينسى أهمية المفاوضات أيضا، باعتبار الأولى وسيلة تدعم الثانية كما بينت هذا من قبل، أضف إلى ذلك فإن شوقي يتميز بحديثه عن أخلاق الحرب، مما بينه في البيتين الأخيرين من المقطع السالف، وينسجم مع نظرته الأخلاقية التي رددها في غير هذه القصيدة([20]).

غير أن أبرز العناصر التي تجسد فيها التقارب – ولو بشكل ظاهري –  بين الحدثين الأدبيين عند كل من شوقي وأبي تمام، قد تجلى في الجوانب التخطيطية، مما جعل طه حسين يجزم قائلا: (فأبو تمام إذن، هو الذي قدم إلى شوقي قوافيه، وشيئا غير قليل من ألفاظه ومعانيه)([21]).

الجوانب التخطيطية

رأينا سابقا أهمية الإيقاع باعتباره بؤرة مخططات النص التي تتحكم في الاختيارات الأسلوبية للشاعر، وتصنع توقع القارئ، وبناء على ذلك، فإن تبني شوقي في نصه لمخططات الطائي الأكبر، يمثل دليلا ساطعا على ما اعتبرته تلقيا منتجا، ذلك بأن أمير الشعراء قد انطلق بدوره من بحر البسيط عبر النظام السداسي الذي بينته في الفصل السابق، وهذا ما يفرض علينا تحديد القوافي المشتركة بين النصين، مع إبراز ترتيبها، مما يوضحه الجدول التالي:

أبو تمام الطائيأحمد شوقي   كلـــــمة القافية
إعراب القافيةرقم البيتإعراب القافيةرقم البيت 
مضاف إليه71مضاف إليه 1العرب
معطوف على اسم مجرور10معطوف على مضاف إليه6الصلب
فعل مضارع48فعل مضارع7تُجِب
معطوف على مضاف إليه67معطوف على اسم مجرور10الحسب
اسم مجرور11اسم مجرور15الخطب
اسم مجرور1معطوف على اسم مجرور16الكتب
معطوف على مضاف إليه36اسم مجرور18القضب
معطوف على مضاف إليه25نعت اسم مجرور22الخشب
اسم مجرور53اسم مجرور23الذهب
معطوف على مضاف إليه2معطوف على مضاف إليه29الريب
اسم مجرور64معطوف على اسم مجرور30سبب
مضاف إليه35مضاف إليه33منقلب
اسم مجرور26اسم مجرور35اللهب
مضاف إليه58مضاف إليه36الحطب
مضاف إليه20اسم مجرور39الكرب
نعت مضاف إليه42نعت اسم مجرور40الأشب
اسم مجرور39اسم مجرور48الرعب
اسم مجرور14اسم مجرور51صبب
اسم مجرور56مضاف إليه52الهرب
اسم مجرور9اسم مجرور55قطب
فعل مضارع18فعل مضارع56تشب
اسم مجرور45اسم مجرور57عشب
معطوف على مضاف إليه15مضاف إليه58أب
معطوف على مضاف إليه21مضاف إليه59الرَّحَب
نعت اسم مجرور3اسم مجرور60الشهب
مضاف إليه19مضاف إليه67الحقب
مضاف إليه17اسم مجرور69النوب
نعت مضاف إليه44نعت مضاف إليه70السُّلُب
نعت اسم مجرور 40نعت اسم مجرور75لجب
اسم مجرور55اسم مجرور76صخب
اسم مجرور66معطوف على اسم مجرور79الحجب
نعت اسم مجرور12نعت اسم مجرور83القشب
اسم مجرور43اسم مجرور88كثب

وتجدر الإشارة إلى أن نص أحمد شوقي قد هيمنت على قوافيه الكلمات المجرورة بحرف جر([22])، ثم الكلمات المجرورة بالتبعية([23])، ثم المجرورة بالإضافة([24])، فالأفعال المضارعة المجزومـــــــــة

بلم([25])، وقد يأتي الجر بالإضافة تانيا، إن ميزنا في التبعية بين العطف والنعت([26])، مما يقربنا من مخططات النص التمامي كما رأيناها في المبحث السابق. ويؤكد الجدول ذلك التقارب بين النصين، حيث نلفي أزيد من ثلث قوافي نص شوقي وردت في بائية عمورية، ويتجاوز هذا العدد النصف، إذا نحن أضفنا بعض القوافي التي مستها تغييرات بسيطة([27]).

كما تجدر الإشارة إلى أن التقارب في الجوانب التخطيطية بين البائيتين لا يقتصر على القوافي فقط، وإنما قد يمتد إلى أكثر من ذلك، كما في قول شوقي:

     سُئِلتَ  سِلمًا  عَلى  نَصرٍ  فَجُدْتَ   بِها      وَلَوْ  سُئِلتَ  بِغَيرِ   النَّصْرِ   لَم   تُجِبِ([28])

إذ  تتقاطع بنية البيت مع قول أبي تمام:

 أَجَبْتَهُ  مُعْلِنًا  بِالسَّيْفِ  مُنْصَــــلِتًا       وَلَوْ  أَجَبْتَ  بِغَيْر  السَّيْفِ  لَمْ  تُجِبِ([29])

حيث يبرز الجدول التالي ذلك التقاطع بين عجزي البيتين:

 محلها من الإعرابالكلمة في عجز بيت أبي تمامالكلمة في عجز بيت شوقي
حرف عطفوَوَ
حرف امتناع لامتناعلَوْلَوْ
فعل الشرط + فاعل(ضمير متصل)أَجَبْتَسُئلْتَ
جار ومجروربغَيْربغَيْر
مضاف إليهالسَّيْفِالنصر
فعل مضارع مجزوم بلم + فاعل “ضمير مستتر”؛ (جواب الشرط)لمْ تُجِبلمْ تُجِب

 ومن حيث البنية الدلالية نجد ائتلافا واختلافا بين العجزين: ائتلافا حين نرى الجواب قد تحقق من البطلين، حيث إن امتناع سؤال مصطفى كمال السلم بغير الظفر في معركة الأناضول يشبه امتناع جواب المعتصم الصوت الزبطري بغير السيف، مما أدى إلى امتناع عدم الجوابين، حيث ضمن كل شاعر شرطا ثانيا ضمن الشرط العام الذي يؤديه حرف “لو”، وهذا الشرط المتضمن هو النصر عند شوقي، والسيف عند أبي تمام؛ واختلافا حين نرى أن مصطفى كمال سئل السلم بعد النصر، مما يرسخ ثنائية: الصلح العزيز/الحرب المظفرة، في حين كان جواب المعتصم مقتصرا على السيف، مما ينسجم وصرخة الصوت الزبطري؛ وقد تجلى هذا الاختلاف في صدري البيتين، حيث نلفي ثنائية الصلح/الحرب (“سلما”/”نصر”) في صدر بيت شوقي، ولم نسمع غير صليل السيف في صدر بيت الطائي.

والحقيقة أن هذا النمط من التلقي المنتج، يشمل عدة أبيات من نص شوقي، وقد يأخذ بعدا أعمق، حين يعمد الشاعر إلى نقل الدلالة من مجال إلى آخر، كما في قوله:

   نَشْوى   مِنَ   الظَّفَرِ   العالي   مُرَنَّحَةٌ       مِن سَكْرَةِ النَّصْرِ لا مِنْ  سَكْرَةِ  النَّصَبِ([30])

حيث لا يخفى أن البنية الهيكلية لعجز بيت شوقي تجعل المتلقي – الذي قرأ نص أبي تمام – يستحضر قول حبيب:

   مُوَكَّلًا     بِيَفَاعِ    الأَرْضِ   يُشْرِفُهُ        مِنْ خِفَّةِ  الْخَوْفِ  لا مِنْ   خِفَّة   الطَّرَبِ([31])

إذ يمكن إبراز التشابه التخطيطي، والاختلاف الدلالي بين العجزين بشكل خاص، من خلال الجدول التالي:

الدلالةالجوانب التخطيطيةالعبارة
تتفق العبارتان في الدلالة على الحركة والسرعة، لكن بشعورين متناقضين، فرغم تشابه الحركتين إلا أن باعثهما مختلف؛ وهذا راجع إلى كون بيت شوقي يتحدث عن خيل الممدوح المنتصر في الحرب، في حين يصف بيت أبي تمام هلع قائد العدو المنهزم.إيقاعيا: مُسْتَفْعِلاتُنْ مَـ صرفيا:  من فَعْلَةِ/فِعْلَةِ، الْفَعْلِ نحويا:  جار ومجرور+         مضاف إليهمن سكرة النصر، من خفة الخوف
النفي يؤكد ذلك الاختلاف، لا سيما في سلب السبب المتوقع لدى المتلقي، والمتمثل في النصب في بيت شوقي، إذ عادة ما يفكر القارئ في النصب عند الحديث عن الخيل بعد المعركة؛ والمتمثل في الطرب في بيت أبي تمام، إذ من المعتاد أن ترتبط خفة الحركة بطرب الإنسان؛ دون أن نغفل دلالة الاختلاف بين كلمتي القافية، مع ما يتيحه النفي من إيحاء، خاصة وأن الطرب الذي نفاه أبو تمام عن قائد العدو، يناسب الخيل النشوى من الظفر، كما أن النصب الذي نفاه شوقي عن هذه الخيل لا يبعد أن يتصف به القائد المهزوم، غير أن الخوف جعله يخف رغم النصب!إيقاعيا: ـفَاعِيلُنْ مُفَاعَلَتُنْ صرفيا: لا مِنْ فَعْلَةِ/فِعْلَةِ، الْفَعَلِ نحويا:  حرف نفي+جار ومجرور+ مضاف إليهلا من سكرة النصب، لا من خفة الطرب

أضف إلى ما سبق كون أحمد شوقي قد أعاد بناء نصه انطلاقا من أفق تجربتته الخاص، فحين نتأمل جدول القوافي السالف([32]) نرى أن أحمد شوقي أخر كثيرا من القوافي التي تقدمت في نص أبي تمام، وقدم كثيرا مما تأخر منها، وهو ما تجلى بشكل بارز في المطلع، إذ بدأ شوقي من حيث انتهى أبو تمام!

تحديد فراغات النص

في قراءتي لفراغات نص أحمد شوقي بتوظيف وجهة النظر الجوالة، لا يمكن الاستغناء عن نص الطائي، باعتباره خلفية لإنتاج نص شوقي، غير أنني سأخص الأبيات التي كان فيها التقاطع بين القوافي تاما، من حيث الكلمات ومحلها الإعرابي؛ وهذا التقاطع التام برز منذ مطلع نص شوقي، حيث بدأ مما انتهى أبو تمام، لكن رغم الاتفاق بين كلمتي القافيتين ومحليهما من الإعراب، إلا أن سياق كل منهما يختلف عن الآخر كاختلاف البداية والنهاية؛ فإذا كان أبو تمام ختم نصه بالنتيجة الحتمية للظفر بالمعركة، من خلال بيانه جلال أوجه العرب، فإن أحمد شوقي – خلافا لما رأى طه حسين – ينطلق من أفقه الراهن حين يطلب من خالد الترك تجديد خالد العرب، مما يعني أن الذي يجل أوجه العرب قد ترهل، فأصبحت تلك الوجوه في حاجة إلى من يمسح عنها غبار الخنوع والاستسلام؛ وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن خالد العرب لا يعني به الشاعر العلم المعروف في التاريخ الإسلامي فقط، بقدر ما يشمل القيادة العربية المفقودة، ويؤكد هذا الفقد غياب إشارة شوقي إلى العروبة طيلة ثمانية وثمانين بيتا، مقابل حضور لافت للنسب التركي، من خلال عبارات: “خالد الترك”([33])، “للترك ساعات”([34])، “تلمس الترك”([35])، “لولا الفتى التركي”([36]). ولا يفوتني التنبيه إلى دلالة البدء والختم بالبطل التركي، مما ينسجم والحدث التاريخي الراهن، لا سيما حين ننظر إلى خطر المصطلح التركي الذي وظفه مصطفى كمال من أجل إخراج شعب غير منشعب([37]) من رحم الدولة العثمانية المحتضرة، ورغم ما عرف عن مصطفى كمال من حرب شعواء ضد المظاهر الإسلامية، فإن أحمد شوقي قد رجح الحدث الأدبي الماضي على الحدث التاريخي الراهن، من خلال حديثه عن الفتح في المطلع، مستلهما إيحاءات المصطلح الذي استهل به أبو تمام بيان ما حل بالأوثان والصلب؛ فإذا كان حبيب بن أوس قد أقر بعجز الأجناس الأدبية عن الإحاطة بعظمة فتح عمورية قبل أن يشرع في وصف هذه العظمة، فإن أمير الشعراء يلح بدوره على ذلك العجز، حيث يكتفي في صدر المطلع بإبراز تعجبه من هذا الفتح المزدوج، كما يدل على ذلك صدر البيت الثاني؛ ورغم أن النص كله يتمحور – مثل نص أبي تمام – حول هذا الفتح، فإنني سأقتصر على الأبيات التي صرح فيها شوقي بذكر الفتح، ليتبين ذلك الترجيح، فإلى جانب المطلع صرح شوقي بالفتح في أربعة أبيات، حين قال:

   حَتّى   تَعالى   أَذانُ   الفَتحِ    فَاتَّأَدَت      مَشيَ الْمُجَلّي إِذا اسْتَوْلى عَلى  القَصَب    تَحِيَّةً     أَيُّها      الغازي      وَتَهْنِئَةً        بِآيَةِ    الفَتْحِ    تَبقى    آيَةُ    الْحِقَبِ

          (…)   وَأَرَّجَ   الفَتحُ   أَرجاءَ   الحِجازِ   وَكَمْ      قَضى  اللَيالِيَ   لَم   يَنْعَمْ   وَلَم   يَطِبِ

وَازَّيَّنَت   أُمَّهاتُ   الشَرقِ   وَاستَبَقَتْ     مَهارِجُ  الفَتْحِ  في   الْمُؤشِيَّةِ   القُشُبِ([38])

ولعل أول ملاحظة تتمثل في موقع الأبيات التي اختار لها شوقي الربع الأخير من القصيدة، وكأنه يعكس استهلال أبي تمام وصف المعركة بالفتح. وإذا كان فتح الفتوح في قصيدة أبي تمام قد جعل أبواب السماء تتفتح له، وتبرز الأرض في أثوابها القشب، فإنه في قصيدة شوقي، أيضا، أذن في الخيل المتأججة في ساحة الوغى، فاتأدت، سواء أكانت الخيل المقصودة ملائكة، كنى عنها شوقي بخيل الله في السحب، التي تعكس تفتح أبواب السماء لهذا النصر/الفتح، أم كانت جيشا مقاتلا، كنى عنه أمير الشعراء بخَيل الحق الراقصة على الصعيد([39])، مما جعل الفتح آية الحقب – كما كان عند أبي تمام زبدة الحقب – ومهد لبروز الأرض في أثوابها القشب، وإذا كانت هذه العبارة من نسج أبي تمام، في بداية حديثه عن الفتح، فإن شوقي قد تحدث عن المعنى نفسه تقريبا في البيتين الأخيرين، حين أبرز تأريج الفتح أرجاء الحجاز، التي قضت ليالي عصيبة قبل ذلك، ومن هنا ندرك العلاقة مع بيت أبي تمام، علاقة تبدأ من وحدة القافية دلالة وإعرابا، وتتعمق من خلال إبراز أثر الفتح الذي جعل الأرض تأخذ زينتها! مع فارق بسيط، يتمثل في كون هذه الزينة ظهرت في نص أبي تمام قبل وصف الفتح الذي اعترف بالعجز عن الإحاطة به، في حين أظهرها شوقي بعد أن أبرز خصائص ذلك “الفتح” العجيب؛ ولعل هذا الاختلاف الموقعي راجع إلى طبيعة التلقي ذاته، التي رأينا تجلياتها البارزة في المطلع حين بدأ شوقي مما انتهى أبو تمام، وانعكست على كثير من الأبيات، حيث أخر شوقي ما قدم أبو تمام، وقدم ما أخر.

غير أن هذا التغيير الموقعي لم يكن متواترا، إذ نجد بعض الاستثناءات التي تؤكد أن عملية التلقي لا يمكن أن تسيج بمقولات جاهزة، بل هي عملية معقدة، لا سيما حين يتحول التلقي – كما هي الحال هنا – إلى عملية منتجة، ومن تلك الاستثناءات بيت شوقي السادس حين قال:

        لَم  يَأتِ  سَيفُكَ  فَحشاءً   وَلا   هَتَكَتْ  قَناكَ  مِن  حُرْمَةِ   الرُّهْبانِ   وَالصُّلُبِ([40])

فإذا كان موقع هذا البيت ضمن العشرة أبيات الأولى من قصيدة شوقي، فإن البيت الذي يناظره في قصيدة أبي تمام يختم الأبيات العشرة الأولى أيضا، بيد أن هذا التقارب الموقعي لا يحجب التباعد الواضح بين دلالتي البيتين وسياقيهما، رغم توحد القافيتين؛ فقد رأينا سابقا دلالة بيت أبي تمام الذي يتحدث عما أخفته كتب المنجمين – عجزا – من “فحشاء” السيف الصارم([41])، غير أن أحمد شوقي قد حول ذلك الدمار الذي حل بأهل الشرك إلى نفي للفعل التدميري، فالصلب التي كانت في بيت أبي تمام رمزا للشرك الذي نال جزاءه العادل، أضحت في بيت شوقي رمزا للحرمة، وهذا ما يبرزه المعطوف عليه في البيتين، فشوقي يحاول أن يتحدث عن طهارة المعركة، من منظور مختلف عن منظور أبي تمام؛ ذلك بأن حرب الأناضول لم تكن دينية بقدر ما كانت تحررية؛ وهذا ما يفسر تركيز أمير الشعراء على ذكر الترك واليونان، وتجنبه تصوير المعركة على أنها بين أهل الشرك والإسلام كما فعل أبو تمام؛ وما دل على هذا لا يعدو أن يكون أثرا من آثار تفاعل شوقي مع الحدث الأدبي الماضي لا تصويرا للحدث التاريخي الراهن.

ويعمق البيت الموالي جدلية السلم والحرب في نص شوقي، والتي تقابل ثنائية الكتب والسيف عند أبي تمام، حيث يقول شوقي:

       سُئِلتَ  سِلْمًا  عَلى  نَصرٍ  فَجُدْتَ   بِها      وَلَوْ  سُئِلتَ  بِغَيرِ   النّْصرِ   لَم   تُجِبِ([42])

فالسلم الذي سئله مصطفى كمال، وجاد به بعد النصر، تقابله – في نص أبي تمام –  الكتب التي لا تبين أمرا قبل موقعه، كأمر ما حل بالأوثان والصلب، ومن هنا فإن العلاقة بين الكتب والسيف علاقة تضاد في بيت أبي تمام، في حين هي علاقة تكاملية في نص شوقي، نظرا لاختلاف دلالة الكتب بين النصين كما وضحت ذلك سابقا([43])، فشوقي قد تفاعل مع تلك الثنائية التي عرضها الطائي في البيت العاشر، وعمل على نقلها – لحظة الإنتاج – إلى ثنائية المفاوضات/الحرب، التي تتمحور حولها القصيدة الشوقية، إذ يظهر الجدول التالي ذلك التفاعل:

بيت أبي تمام (10)بيتا شوقي (6 و7)
الكتب أخفت ما سيفعله السيف من دمار يلحق الأوثان والصلب.العجزالسلم شمل الرهبان والصلب في أوج المعركة.البيت 6
الكتب لا تبين أمرا قبل وقوعه.الصدرالسلم العام بعد تحقق النصر.البيت 7

فالكتب التي لا تبين أمرا قبل وقوعه في صدر بيت أبي تمام، تقابل السلم الذي جاد به مصطفى كمال بعد النصر، وهما يتقاطعان في عدم الجدوى قبل المعركة، فكما لم تُجْد الكتب للمنجمين نفعا، لم يكن السلم ليحقق الجدوى لو تم قبل المعركة، وهو ما وضحه الشاعر في البيت السادس عشر([44]).

غير أن البيت السابع في قصيدة شوقي، لا يتناظر فقط مع صدر البيت العاشر من قصيدة أبي تمام، وإنما يتناظر أيضا مع البيت الثامن والأربعين، سواء من حيث الجوانب التخطيطية، أو من خلال الجواب المؤتلف المختلف لقائدي المعركتين، وهو ما بينته سابقا([45]). ورغم أن بيت شوقي يأتي في بداية القصيدة، عكس بيت أبي تمام، إلا أن هذا الموقع يمثل وضعية مقلوبة للحدث التاريخي، حيث إن جواب المعتصم للصوت الزبطري كان قبل  المعركة، في حين كان جواب مصطفى كمال لنداء السلم بعدها.

وإذا كان البيت العاشر في قصيدة شوقي([46])، يقترب من البيت السابع والستين في قصيدة أبي تمام([47])، نظرا لربط الشاعرين ممدوحيهما بالإسلام والحسب، حيث وظفا ضمير المخاطب؛ فإن أحمد شوقي قد جعل عجُز البيت حكمة، وكأنه استشعر علمانية مصطفى كمال، عكس أبي تمام الذي أبرز تشبث الخليفة المعتصم بالدين، سواء حين خاطبه بخليفة الله، أو من خلال إبراز دفاعه عن “جرثومة الدين والإسلام والحسب”؛ دون إغفال ما تتيحه كلمة القافية من تحقق مختلف بين البيتين، لطبيعة النظام السياسي المختلف.

ويعمد شوقي في البيت الخامس عشر([48])، إلى الاقتراب من قصيدة الطائي الذي أقر بعجز الشعر والخطب عن الإحاطة بالفتح، غير أن أمير الشعراء اعتبر السيف ممهدا للخطب، ومن هنا تتأكد تلك المفارقة بين اتجاهي القصيدتين، فأبو تمام يعطي، دوما، النصر الساحق للسيف، حتى ولو تعلق الأمر بالكلام الواصف للمعركة، بل حتى ولو كان هذا الكلام صادرا عن أبي تمام نفسه، في حين يبحث شوقي، دوما، عن إبراز تلك العلاقة التكاملية بين السيف والخطب التي يعني بها مفاوضات لوزان، كما أشرت إلى ذلك من قبل([49])، وتتأكد تلك المفارقة أيضا حين نقرأ بيت أبي تمام، الذي يبرز فيه انتقال عدوى الخراب من أنقرة إلى عمورية([50])، فأنقرة في بيت شوقي تتدرع بالحرب من أجل لقاء السلم، والسيف فيها يمهد للمفاوضات في لوزان، في حين لا نلفي أنقرة في بيت أبي تمام، سوى متدثرة بالخراب الذي انتقلت عدواه إلى عموية([51]).

 ويعكس البيت الثالث والعشرون([52]) ذلك التلقي المنتج عند شوقي، فساعات الصبر المكتوبة بالذهب، والتي يسندها شوقي للترك يوم النكبة، يمكن النظر إليها في علاقتها بقصيدة أبي تمام من زاويتين:

 الأولى يعرّض فيها بقائد اليونانيين الذي فر، مثل توفلس، ولم يصبر على رزايا ذات الشوكة، بيد أن الأتراك صبروا صبرا سجله التاريخ في صفحته الغراء مكتوبا بالذهب الذي لن يصل إلى قيمته ذلك الذهب المادي المنفَق في بيت أبي تمام([53]).

 والثانية تذكرنا بتلك النكبة التي حلت بالمسلمين في زبطرة، حين لبى المعتصم الصوت الصارخ، غير أن أحمد شوقي يؤكد في البيت الموالي أن ذلك الصبر منع الصرخات من أن تكدر خطه الذهبي([54]).

وهذا ما يعضده البيت التاسع والعشرون([55])، الذي يبرز فيه  أحمد شوقي جدلية اليأس والرجاء، الناجمة عن ثنائية المحنة والصبر، إذ سرعان ما ظهرت نتيجة الصبر المكتوب بالذهب، حين محا نورُ اليقين ظلامَ  الشك والريب؛ وهكذا يقابل الصبرُ في نص شوقي السيفَ في نص أبي تمام([56])، باعتباره محا ظلام اليأس بعد أن سطع نور الرجاء، مثلما محا السيف في نص أبي تمام أراجيف المنجمين الذين حاولوا وأد الرجاء وزرع اليأس في النفوس؛ وبناء على هذا فإن ساعات صبر الترك يوم نكبتهم تمثل فعلا إبداعيا منتجا، يجد مرجعيته في بيض الصفائح التي أزالت نكبة المسلمين في زبطرة، ومحت معالم يأسهم، وبعثت فيهم الرجاء، لا سيما وأن عجزي بيتي الشاعرين متقاربان جدا من حيث الدلالة على إحلال نور اليقين محل ظلام الشك، كما يتضح مما يلي:

أبو تمام                                                            شوقي

في متونهن(بيض الصفائح)             =                  كن (ساعات صبر)

              ↓                                                       ↓

جلاء الشك والريب                       =                 محا نور اليقين ظلام الشك والريب

 ويستمر أمير الشعراء في التلقي المنتج حين يتحدث عن حسن عاقبة سفينة المحاربين الأتراك، الذي جاء من سوء منقلب اليونانيين، مثلما تحدث أبو تمام عن حسن المنقلب بعد النصر في عمورية، نصر جاءت بشاشته من سوء منقلب أهل الشرك. وإذا كان سوء المنقلب يحَقق، غالبا، في بيت أبي تمام بهزيمة العدو، فإنه في بيت شوقي يحتمل، إلى جانب هذا التحقق، الهزيمة التي كان يمكن أن تقع للترك، كما يؤكد ذلك فعلا “أمن” و”أبدلها” في قوله:

 قَد   أَمَّنَ    اللَّهُ    مَجْراها    وَأَبْدَلَها      بِحُسنِ   عاقِبَةٍ   مِن   سوءِ    مُنقَلَبِ([57])

ومهما يكن، فإن حسن العاقبة وسوء المنقلب وجهان لعملة النصر، وهذا ما يوضحه البيتان اللاحقان حين يقول شوقي:

ما  كانَ  ماءُ  «سَقارَيّا»  سِوى  سَقَرٍ      طَغَتْ  فَأَغرَقَتِ  الإِغريقَ   في اللّهَـبِ

لَمّا   انْبَرَت   نارُها    تَبغيهُمُ    حَطَبًا      كانَت   قِيادَتُهُم    حَمّالَةَ    الْحَطَبِ([58])

وواضح في البيت الأول أثر تلك النزعة البديعية التي عرف بها أبو تمام، حيث تضمن جناسين اثنين، مما خيب أفق توقع طه حسين([59])، ورغم أن المشترك بين الشاعرين تمثل في الحديث عن لهب المعركة الذي أحرق الأعداء، إلا أن أبا تمام عزف على ثنائية: النور/الظلام([60])، في حين ركز شوقي على ثنائية:  الماء/النار، وإذا كان اللهب قد حول الليل البهيم إلى صبح ينير المسلمين ويحرق المشركين عند أبي تمام، فإنه قد حول ماء سقاريا إلى سقر تحرق الإغريق وتغرقهم، وتؤمن مجرى سفينة الجيش التركي عند شوقي؛ ويدعم البيت الذي يليه ذلك اللهب المشتعل، حيث غدا الأعداء حطبا لنار المعركة، وكأن أحمد شوقي استحضر البيت الثامن والخمسين من قصيدة الطائي([61])، لا سيما وأن البيتين كليهما يتحدثان عن القيادة العليا للعدو، بيد أن الاختلاف يبقى حاضرا بينهما، فإذا كان الطائي يصور فرار القائد  عن حر ولهب النار؛ فإن شوقي يجعل القيادة اليونانية حمالة الحطب، ما دامت هذه القيادة الضالة المضلة هي التي أغرت الجنود اليونانيين بمحاربة الأتراك، وبدل إنقاذهم حين تأججت المعركة، صارت تقدمهم حطبا يغذي أوارها، دون إغفال ما يوحي به المركب الإضافي: “حمالة الحطب” من دلالات عميقة، ترتبط بموقف أبي لهب وزوجه من الرسالة النبوية، مما بينه الله تعالى في سورة المسد.

ويؤكد البيت الأربعون من قصيدة شوقي هذا التلقي المنتج، إذ يتحدث الشاعر عن علاقة القمة بالقاعدة في صفوف الأعداء، فيبين أنها قائمة على الخداع، حيث زين الساسة للرعية حرب الأتراك، وأوهموهم بسراب النصر، وما أخطروهم بأن الوجهة نحو عرين، قلما يؤوب منه المقاتلون بالإياب غنيمة؛ ولا ريب في أن قول أحمد شوقي:           هُم   حَسَّنوا   لِلسَّوادِ   البُلْهِ    مَمْلَكَةً     مِن لِبْدَةِ  اللَّيثِ  أَو  مِن  غيلِهِ  الأَشِبِ([62])

يجعل القارئ  يتذكر قول أبي تمام:

 مِنْ بَعْدِ ما أَشَّبوهَا  واثِقينَ بِـــها       واللهُ مِفْتاحُ بابِ الْمَعْقِلِ الأَشِــبِ([63])

ولا يخفى أن هذا التذكر لم يكن بسبب اشتراك البيتين في القافية فقط؛ وإنما يتعدى ذلك إلى أن البيتين كليهما يتحدثان عن الأعداء، خاصة الصدرين، كما يتضح من العبارتين: هم حسنوا = أشبوها. غير أن حديثهما مختلف، حيث أبرز أبو تمام قوة ومناعة الأعداء، تمهيدا لإبراز بسالة الجيش الإسلامي، في حين قدم أحمد شوقي بذرة التفكك التي عجلت بهزيمة العدو، والمتمثلة في خداع القادة لرعيتهم، وبناء على هذا تكون القافية وصفا للجيش التركي المنتصر، إذ يركز شوقي على قوة الأتراك بشكل مباشر، عكس أبي تمام الذي انطلق من أفقه الراهن، حيث كان النصر على العدو القوي يمثل أسمى وأبهى درجات الظفر.

ويتأكد حرص أحمد شوقي على قلب دلالة القافية حين نتأمل البيت الثامن والأربعين، ونقارنه بالبيت التاسع والثلاثين من قصيدة أبي تمام؛ حيث قال شوقي:

لَمّا    صَدَعْتَ     جَناحَيهِمْ     وَقَلْبَهُمُ      طاروا   بِأَجنِحَةٍ   شَتّى   مِنَ   الرُّعُبِ([64])

وقال الطائي:

 لَمْ يَغْزُ   قَوْمًا    وَلَمْ   يَنْهَدْ   إلى   بَلَدٍ        إلَّا   تَقَدَّمَهُ    جَيْشٌ    مِنَ   الرُّعُبِ([65])

إذ الرعب في بيت أبي تمام يرتبط  بالمعتصم وجيشه، في حين يرتبط في بيت شوقي بالساسة المنهزمين الفارين؛ وهو في كل هذا وذاك يعكس قوة الجيش الظافر الذي ينشر الرعب  في نفوس الأعداء.

ويستمر أحمد شوقي على هذا النسق في البيت الواحد والخمسين([66])، إذ يحول دلالة بيت أبي تمام من ثنائية الإسلام/الشرك([67])، حيث يصعد الأول وينحدر الثاني، إلى ثنائية تتعلق بالقائد التركي في علاقته بقائد العدو، حيث إن الصعد والصبب الذي يتحدث عنه شوقي في بيته يعكس هول المفاجأة التي صدمت قائد المعسكر اليوناني فلم يدر من أي جهة أحاط الترك بهم، مما يعني أن هؤلاء قد خططوا بشكل جيد للمعركة، فشلّوا تفكير قيادة العدو، كما تعكس ذلك عبارة شوقي: “لم يدر قائدهم”؛ مما جعل تفكير القائد المهزوم يركز حول الهرب([68])، ليكتمل بذلك مشهد فرار الجند في الأبيات السابقة: “ذابوا عن معاقلهم”([69])، و”طاروا بأجنحة”([70])، و”جد الفرار”([71])، و”انسحبوا”([72]).

كما حوّل أحمد شوقي دلالة القطب من التنجيم والكتب في نص أبي تمام، إلى المعركة والسيف، حيث ربطها بالقوة الخارقة للخيل في قطع المسافات، حين قال:

أَفي   لَيالٍ   تَجوبُ   الرّاسِياتُ    بِها      وَتَقْطَعُ  الأَرضَ  مِن  قُطْبٍ  إِلى  قُطُبِ([73])

ولا يمكن أن نستوعب هذا البيت دون تذكر سابقه الذي قال فيه الشاعر:

خَيلُ  الرَّسولِ   مِنَ   الفولاذِ   مَعدِنُها      وَسائِرُ  الْخَيْلِ  مِن  لَحْمٍ  وَمِنْ  عَصَبِ([74])

ولعل طه حسين لم ينظر إلى هذا البيت، أو لعله تغاضى عنه حين نعى على الشاعر ذكر السيف والرمح، رغم أن هذا البيت – ولا سيما صدره – يبرز بعض الآليات العسكرية العصرية التي اعتمدها مصطفى كمال في معركته، انطلاقا مما تتيحه فراغات: “الخيل الفولاذية” من تحققات. واللافت للنظر في البيت الخامس والخمسين هو تحويل أحمد شوقي ليالي التنجيم في نص أبي تمام إلى ليال تقطع تلك الخيل الأرض فيها من قطب إلى قطب، إذ إن هذا القطب الذي كان عند المنجمين – في نص أبي تمام – وسيلة لحكم غيبي خاطئ، غدا في نص شوقي فضاء لحكم واقعي صادق؛ وهو قبل ذلك يكمل البيت الذي قبله، حيث إن هذه الخيل التي تجوب الراسيات، وتقطع الأرض من قطب إلى قطب، لا يمكن أن تكون من لحم ومن عصب، وإنما معدنها من الفولاذ!

وتبرز قيمة الدلالة الزمنية المتمثلة في الليالي، حين يقول شوقي في البيت الموالي:       سَلِ   الظَّلامَ   بِها   أَيُّ   الْمَعاقِلِ   لَمْ      تَطْفِرْ  وَأَيُّ  حُصونِ  الرومِ  لَم  تَشبِ([75])

حيث يتحول الظلام، الذي كان شاهد زور لدى المنجمين في نص أبي تمام([76])، إلى شاهد صدق يؤكد قوة الجيش التركي في مواجهة الروم، ورغم أن بيتي الشاعرين متطابقان من حيث القافية([77])، إلا أن بيت أبي تمام يؤكد ما أشرت إليه سابقا من حرصه على الإشادة بقوة الخصم، تمهيدا لإبراز قوة جيش المعتصم، بينما يؤكد شوقي اتجاه القصيدة الأحادي في إبراز قوة الجيش التركي، إذ يشترك الشاعران في إبراز قوة الجيش المنتصر، ذلك أن الشيب الذي نفاه أبو تمام عن عمورية مختص بمرحلة ما قبل المعركة، في حين يدل الاستفهام التقريري في بيت أحمد شوقي على إثبات الشيب لحصون الروم بعد المعركة؛ وهنا يلتقي مع أبي تمام الذي لم ينف الشيب قبل المعركة إلا لإثباته بعدها! كما أن الليالي التي شابت قبل عمورية في بيت أبي تمام، تحولت في بيت شوقي إلى مسؤول يشهد بإثبات الشيب لحصون الروم.

وإذا كان شيب عمورية قد اشتعل بعد أن افترعها المعتصم وجيشه في يوم طاهر جنب، بعدما متحوا بدلوي الحمامين: السمرِ والقضب، الحياتين: الماءَ والعشب؛ فإن  حصون الروم قد شابت أيضا، بعد أن نزلت خيل الأتراك الفولاذية ماء أزمير وعشبها، إذ يبين شوقي ذلك قائلا:

آلَتْ لَئِن  لَمْ  تَرِدْ  «أَزميرَ»  لا  نَزَلَتْ      ماءً  سِواها  وَلا  حَلَّتْ   عَلى   عُشُبِ([78])

وكأن شوقي، بإسناده القسم إلى الخيل مجازا، يردّ على قرار مضمر لقائد اليونان، يتعلق بالموقع الاستراتيجي لأزمير مائها وعشبها، ولعله قرار لا يختلف كثيرا عما قرره ذو أمر المشركين في موقعة عمورية كما رأينا ذلك من قبل([79])، وإذا كان أبو تمام قد جعل أطراف القنا تحول ذلك القرار إلى أماني، فإن أحمد شوقي جعل، أيضا، أطراف القنا السلب أدوات للكتابة عند الجيش التركي([80])، مما ينسجم مع ما قرره سابقا من أن الملك يبنى على الكتائب لا الكتب، فلا كلام قبل صليل السيوف، ولا توقيع معاهدة قبل التوقيع بأطراف القنا التي ليست سوى رمز يرى قانون القوة مدخلا لازبا لقوة القانون.

ويبقى البيت الخامس والسبعون متميزا في إطار الحديث عن التلقي المنتج لدى أحمد شوقي، ذلك أن قوله:

    وَكَم  ثَلَمْتَ بِهِمْ   مِن  مَعْقِلٍ   أَشِبٍ      وَكَم  هَزَمْتَ  بِهِمْ  مِن  جَحْفَلٍ  لَجِبِ([81])

يتقاطع من جهة الصدر مع قول أبي تمام:

    مِنْ بَعْدِ ما أَشَّبوهَا واثِقينَ بِـــها       واللهُ مِفْتاحُ بابِ الْمَعْقِلِ الأَشِـــبِ([82])

ومن جهة العجز مع قول الطائي قبل هذا البيت:

  لَوْ لَمْ يَقُدْ جَحْفَلا يَوْمَ الْوغى لَغَدا        مِنْ نَفْسِـهِ وَحْدَهَا في جَحْفَلٍ لَجِبِ([83])

وإذا كان الصدر يقترب دلاليا مع البيت الأول من بيتي أبي تمام، فإن العجز في بيت شوقي يخيب التوقع، حين نرى – خلاف ما عودنا شوقي – أن الجحفل اللجب صفة للخصم الذي هزمه مصطفى كمال بجيشه الذي اتخذ أطراف القنا أقلاما، وسيوف الهند ألسنة؛ وبذا يكون للجحفل اللجب ما يطابقه في الواقع متمثلا في الجيش اليوناني بقضه وقضيضه، بينما يمثل الجحفل اللجب في بيت أبي تمام صورة متخيلة، لا سيما وأن الجواب الذي يجعل الجيش اللجب في نفس واحدة، نفس المعتصم، قد امتنع لامتناع تحقق الشرط.

وأخيرا فإن شوقي يختم قصيدته بالحديث عن الفتى التركي  الذي أنقذ تركيا من يوم شبيه بأحد أيام اليهود، دون أن يحدد هذا اليوم بالذات، ليبقى المجال مفتوحا أمام اختيارات المتلقي، إذ قال: 

تَقولُ لَولا الفَتى التُّرْكِيُّ حَـلَّ بِنَا        يومًا كيومِ يهودٍ كانَ عن كَثَــبِ([84])

ولا ريب في أن مقول القول، هنا، يمثل مقابلا لمقول قول توفلس، الذي عبر عنه أبو تمام قائلا:

وَقَالَ ذُو أَمْرِهِمْ لَا مَرْتَعٌ  صَـدَدٌ         للسَّارِحِينَ وَلَيْسَ الْوِرْدُ مِنْ  كَثَبِ([85])

لكن الشاعر العربي يبقى تواقا للفتى العربي كي يحل ليجدد خالد العرب، وليستجيب للصوت العربي الصارخ في مشرق الوطن العربي ومغربه، ولعل هذا السؤال الملح، هو ما جعل صلاح عبد الصبور يعيد صياغة بائية عمورية  – في إطار تلقيه المنتج – صياغة تبرز بوضوح الأسئلة الجديدة التي لم تعد البائية التمامبة قادرة على الإجابة عنها، وهو ما سنبرزه في المقالة القادمة.


 – حافظ وشوقي – طه حسين، ص 42.[1]

 – نفسه، ص 46 – 47. [2]

 – حاقظ وشوقي، ص44.[3]

 – نفسه، ص 44، ويقصد بيتي أبي تمام اللذين يشبه فيهما يوم عمورية بيوم بدر.[4]

 – نفسه، ص 46، ويقصد بيت أبي بمام:  حتى كأن جلابيب الدجى رغبتْ    عن لونها وكأن الشمس لم تغبِ[5]

 – أبو تمام صوت وأصداء – عبد الله التطاوي، ص 101.[6]

 – نفسه، ص 102.[7]

– نفسه، ص 105. [8]

– نفسه، ص  106. [9]

– نفسه، ص 109. [10]

– أبو تمام صوت وأصداء، ص 102. [11]

 – الشوقيات، ص 162.[12]

 http://ar.wikipedia.org  – معاهدة لوزان، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة: [13]

 – الشوقيات، ص 163. [14]

 – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/50.[15]

 – نفسه، 1/73.[16]

 – نلاحظ أن الحرب في بيت أبي تمام كانت ضد أهل أنقرة عكس بيت شوقي، مما أثر على نظرة كل شاعر.[17]

 – الشوقيات، ص 162.[18]

[19] – رغم أن بعض كلمات القافية تدل على المفاوضات (الكتب، الخطب) إلا أن هذه الدلالة المفردة لا تقصي الدلالة العامة لحديث شوقي عن السيف، فالأولى وردت في معرض النفي، وإثبات أن الملك يبنى على الكتائب، في حين أن الثانية أبرزها الشاعر محتاجة للقوة: “مهد السيف في لوزان للخطب”.

 – الشوقيات، البيت 32 ص149، والبيت 102، ص 388.[20]

[21]  – حافظ وشوقي ص 42 .

 – وردت 34 كلمة.[22]

 – وردت 27 كلمة.[23]

 – وردت 19 كلمة.[24]

 – وردت 9 كلمات.[25]

 – حيث وردت 12 كلمة مجرورة بالعطف، و15 كلمة مجرورة بالنعت.[26]

[27]  – وهي مع أرقام الأبيات: (السَّرب4– الصَّخِب 13– الكذب 24– الشَّنِب 28– تُصِب 72 – خَرِبِ 74 – العجَب77 – يَطِب82 – طرب85 – نسب86 – مُخْتَضَبِ87) الشوقيات،من ص  162 إلى ص165.

 – الشوقيات، 162.[28]

 – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/63.[29]

 – الشوقيات، ص 164.[30]

 –  ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/68. [31]

 – ص 34 من هذا الكتاب.[32]

 – الشوقيات،البيت 1، ص 162.[33]

 – نفسه، البيت 23، ص163.[34]

 – نفسه، البيت 30، ص163.[35]

 – نفسه، البيت 88، ص165.[36]

 – نفسه، البيت 78، ص 165.[37]

 – الشوقيات، ص 165.[38]

[39]  – نفسه، البيت 62، ص 164، وهو قوله:  يَومٌ كَبَدْرٍ فَخَيْلُ الْحَقِّ راقِصَةٌ     على الصَّعيدِ وخيلُ الله في السُّحُبِ

دون أن نغفل التقاطع بين الحدثين الأدبيين من خلال استلهام الحدث التاريخي البارز المتمثل في غزوة بدر، كما لا نغفل أيضا ما قد يتيحه هذا البيت من تحققات أخرى، ومن ضمنها أن خيل الله في السحب قد تعني آلات حربية حديثة.

 –  الشوقيات، ص 162.[40]

 – ص 17 من هذا الكتاب.[41]

 – الشوقيات، ص 162.[42]

 – ص 29 من هذا الكتاب.[43]

 – الشوقيات، ص 162.[44]

 –  ص 34 من هذا الكتاب.[45]

 – الشوقيات، ص 162:  وَلا أَزيدُكَ بِالإِسلامِ مَـعرِفَةً       كُلُّ  المُروءَةِ في الإِسلامِ وَالحَسَبِ [46]

[47] – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/72:

            خَليفَةَ اللهِ جازى الله سعْيَكَ عنْ      جُرْثومَةِ الدِّين والإِسْلام والحـسب

 – الشوقيات، ص 162: تَدَرَّعَت لِلِقاءِ  السِلمِ  أَنقَرَةٌ     وَمَهَّدَ السَّيفُ في «لوزانَ»  لِلخُطَبِ [48]

 [49]  – ص 30 من هذا الكتاب.

 [50]  – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/50:

          جَرَى لَهَا الْفَأْلُ بَرْحًا يَوْمَ أَنْقَرَةٍ      إِذْ غودِرَتْ وَحْشَةُ السَّاحاتِ وَالرِّحَبِ

 [51]  – ولعل هذا الاختلاف تعكسه أيضا الحركة الإعرابية لأنقرة بين البيتين، فهي مرفوعة الهامة في بيت شوقي، لأن نصر أهلها سيتحقق مع الصبر، وهي مهيضة الحركة في بيت أبي تمام لأن أهلها دكوا بالهزيمة.

 [52]  – الشوقيات ص 163:

        لِلتُّرْكِ ساعاتُ صَبْرٍ  يَومَ  نَكبَتِهِمْ   كُتِبنَ  في  صُحُفِ   الأَخلاقِ   بِالذَّهَبِ

 [53]  – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي 1/66:                                                                    

                    لَمْ يُنْفِقِ الذَّهَبَ المُرْبي بكَثْرتِـهِ    على الحصى وبِِهِ فَقْرٌ إِلى الذَّهَـــبِ

 وقد شرحه التبريزي:  “يخاطب توفلس، يقول: لم ينفق الذهب الكثير الذي هو أكثر من الحصى رغبة فيما تبذله من الذهب، بل لينتقم منك”.

  [54] – الشوقيات، ص 163:

                       مَغارِمٌ وَضَحايا ما  صَرَخنَ وَلا      كُدِّرنَ  بِالْمَنِّ  أَو أُفسِدْنَ  بِالْكَذِبِ

 [55]  – نفسه، ص 163:        

                      كُنَّ الرَّجاءَ وَكُنَّ  الْيَأسَ ثُمَّ مَحا       نورُ اليَقينِ ظَلامَ الشَّكِّ وَالرِّيَـبِ

[56]  – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/40:

                    بيضُ الصَّفائحِ لا سودُ الصَّحائفِ في    متونِهِنَّ جِلاءُ الشكّ و الريـبِ

 – الشوقيات، ص 163.[57]

 – نفسه، ص 163.[58]

 – حافظ وشوقي، ص 45. [59]

[60] – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/53:

                    غادَرْتَ فيها بَهيمَ اللَّيْلِ وَهْوَ ضُحًى      يَشُلُّهُ وَسْطَها صُبْحٌ مِنَ اللّهَــبِ

  [61]- ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/69:

        إنْ يَعْدُ عَنْ حَرِّهَا عَدْوَ الظَّليمِ فقدْ        أَوْسَعْتَ  جاحِمَها منْ كَثْرَةِ الحطَبِ

 – الشوقيات، ص 163.[62]

[63] – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/60.

 – الشوقيات، ص 164.[64]

 [65]- ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/59.

[66] – الشوقيات، ص 164:  لَم   يَدرِ   قائِدُهُمْ  لَمّا  أَحَطْتَ  بِهِ    هَبَطْتَ مِن صُعُدٍ  أَم  جِئتَ  مِن  صَبَبِ  

[67] – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/47:

                 أَبْقَيْتَ جَدَّ بني الإسْلامِ في صَـعَدٍ     والمشركينَ ودارَ الشِّرْكِ في صَبَب

[68] – الشوقيات، البيت 52،  ص 164.

 – نفسه، البيت 47، ص 164.[69]

 – نفسه، البيت 48، ص 164.[70]

 – نفسه، البيت 49، ص 164.[71]

 – نفسه، البيت ،50 ص 164.[72]

 – نفسه، ص 164.[73]

 – نفسه، ص 164.[74]

 – الشوقيات، ص 164.[75]

 – ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/44، البيت 7.[76]

 – نفسه، 1/48، البيت 18.[77]

[78] – الشوقيات، ص 164.

[79]  – ص 23 من هذا الكتاب.

[80]– الشوقيات، ص 165:

 وَالْجاعِلينَ سُيوفَ  الهِندِ   أَلسُنَهُمْ       وَالكاتِبينَ    بِأَطرافِ    القَنا    السُلُبِ

 – نفسه، ص 165. [81]

[82]– ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/60.

[83] – نفسه، 1/59.

 – الشوقيات، ص 165.[84]

 – ديوان أبي تمام بشرح الخطيبب التريزي، 1/61.[85]

الصورة الرمزية لـ المختار almokhtaar.com

fb.com/almokhtaarcom

2.200

صفحتنا على فيس بوك